سُوق (شرق النيل) المركزي.. وجهٌ آخر لـ(الفساد)

سُوء تخطيط وغياب مُتابعة وفوضى عارمة تضرب السوق

تحقيق: محيي الدين شجر

تُعد مباني السوق المركزي للخُضر والفاكهة بشرق النيل، مثالاً واضحاً لضُمُور الفكر وسُوء التّخطيط وغياب المُتابعة.. فقد ظلّ هذا السُّوق لأكثر من سبع سنوات يقبع تحت الإقامة الجبرية مُعَطّلاً بلا حراكٍ، ورغم أن تكلفة إنشائه تجاوزت الـ(15) مليار جنيه، والتي تُساوي بحساب اليوم ملايين الدولارات.. والذي يَمُر بمبانيه الشّاهقة والجَميلة، لا بُدّ أنّه يشعر بالبُؤس والألم، ويتساءل عن مَن المسؤول من إهدار أموال البلاد في مبانٍ بلا حياةٍ.. (الصيحة) فتحت هذا الملف للوقوف على أسباب فشل المشروع.

ضَربٌ من الخيال

عددٌ مِمّن عملوا في السُّوق المركزي ببيع الخضروات والفاكهة لفترةٍ محدودةٍ قبل أعوامٍ، اشتكوا من قلة رُوّاده، وقالوا لـ(الصيحة) إنّ نجاحه كان يتوقّف على أن يكون بديلاً لسوق حلة كوكو، وأوضحوا أنّ نجاحه مَرهونٌ بوجود سُوقٍ قريب منه هو ضربٌ من الخيال.

وقال الدكتور ياسر الفادني (مُعتمد سابق لشرق النيل) لـ(الصيحة)، إنّ اكتمال العمل في السُّوق المركزي للخُضر والفاكهة بشرق النيل كان في بداية العام2011، وكان من المُخطّط افتتاح السوق في عهده، ولكنه غادر المحلية قبل الشروع في توزيع السوق وتدشينه بصُورةٍ رسميةٍ، كاشفاً عن تكلفته التي بلغت (15) مليار جنيه.

الإشكال الحقيقي

مدير الوحدة الإدارية بالفيحاء عماد رزق قَالَ في حديثه لـ(الصيجة)، إنّ السوق تم بناؤه بواسطة ولاية الخرطوم من عائد التنمية، وذكر أنّ معتمد شرق النيل الأسبق الجعفري هُو مَن وَضَعَ الكثير من المشروعات وقدمها لحكومة الولاية ومن ضمنها كان السوق المركزي، حيث بدأ العمل فيه في عهد والي الخرطوم د. عبد الحليم المتعافي، وانتهى العمل فيه في فترة الوالي د. عبد الرحمن الخضر، وذكر أن وزير التخطيط العمراني السابق شرف الدين بانقا هو أول من أعدّ خريطة هيكلية لولاية الخرطوم، حيث ضمّت كل المشروعات التي نُفِّذت في الولاية، وأن سبب فشل المشروع…. إنّ فكرة السوق كانت ممتازة، ولكن كانت هنالك مُشكلة حقيقيّة في التتفيذ، والسوق أُنشأ ليكون سوقاً مركزياً مُتخصِّصاً في الخضر والفاكهة ويكون البيع فيه بالإجمالي، نافياً أن يكون السوق بديلاً لأيِّ سوق آخر.

أخطاء فادحة

وقال رزق إنّ الخطأ كان في منح دكاكين وعقارات السُّوق لمُوظّفين ومُغتربين لا علاقة لهم بنشاط السوق وبأسعارٍ عالية، وهم ظنُّوا بإمكانهم الانتظار لبعض الوقت ومن ثَمّ الاستثمار في عقاراتهم داخل السوق، مُنوِّهاً إلى أنّ المُعالجات التي كانت تتم لم تكن صحيحة، فمثلاً قامت بمنح مساطب السوق لفرِّيشة سوق حلة كوكو بلا مُقابل، ولكن لم يصمدوا في السُّوق وهربوا ولم يكملوا المشوار، لأنهم ليسوا مُنتجين وأرادوا أن يبيعوا بالقطّاعي، وزاد بقوله: (ترغيب المحلية للمُنتجين الحقيقيين للاستئجار من مُلاك العقارات لم يكن حلاً صائباً، لأن المنتج لو امتلك العقار يمكن أن يضحي ويصبر على الخسارة، لكنه لن يصبر على الخسارة وهو مستأجر)، وقال إنّ السوق هو سوق للبيع بالجُملة، وحتى الملجة التي قامت كحلٍّ من حُلُول المحلية لم تنجح لعدم دخول المُنتجين فيها واستوعبت (باعة) القطاعي فقط، واصفاً قيام مَلَجة جوار مباني السوق بالقرار المُتسرِّع وغير المَدروس، مُؤكِّداً وجود ملجة حديثة بالسوق، مشيراً إلى أنّ مول التيسير، كان الهدف منه أن يكون مثل مول عفراء، وتم طرحه في عطاءٍ وفازت به امرأة تدعى (تيسير) امتيازاً بتشغيله لمدة عشرين عاماً، وتُعد من سيدات الأعمال، وبالفعل بدأت في إجراء تحسينات عليه، إلا أنها فشلت في استكمال المشروع (المول أصبح أيضاً مبنىً بلا روح إلا من لافتة كبيرة تحمل اسم التيسير.. وهذا ما وثّقت له كاميرا الصيحة)، ويواصل عماد رزق حديثه عن المُول بقوله: المحلية استعانت مُؤخّراً بفريق تحكيمي في قضية المول، مُشيراً إلى أنّ نتيجة التحكيم لم تكن في صالح تيسير والمحلية تريد تشغيله أيضاً، ويمكن لتيسير إذا نجحت في توفيق أوضاعها أن تستمر في استثماره بما يعود بالنفع لها وللمحلية ولسُكّان شرق النيل.

نزع وإصلاح

وأضاف عماد بقوله: (إنّ مُعتمد شرق النيل السابق ناجي محمد علي اهتم بموضوع السوق المركزي وهو رجلٌ يحمل رُؤية مُمتازة للإصلاح)، حيث قام بنزع عقارات السُّوق من المُلاك قبل أيام بإرادة منفردة دُون مُوافقة الطرف الثاني وفق العقد المُبرم، الذي يُجيز للمحلية أن تقوم بالنزع إذا عجزوا عن سداد الرُّسوم أو عن إدارتها، وقال إنّ بالسوق نحو (150) عقاراً مُوزّعة كمَساطب وجزارات ونواشف وخضروات  وبقوليات، إضافةً إلى ثلاجات لحفظ  الخضار والفواكه وملجة حديثة.

نواقص

وقال ضابطٌ إداريٌّ عمل خلال فترة استكمال بناء السوق، إنّه كان يرى أنّ السوق يفتقد للملجة ولن تقوم له قائمة إلا بوجودها، وذكر لـ(الصيحة) أنه تفقّد السوق مع المعتمد الأسبق ياسر الفادني، وكانت رؤيته أن السوق يحتاج إلى ملجة، وأن يكون سوقاً للإجمالي، 80% من بضاعته، خضروات وفواكه يتم شراؤها من قبل تُجّار الأسواق في محلية شرق النيل والـ 20% هو فائض يتم بيعه داخل السوق عبر تُجّار القطاعي.

نزاع

وعزا مصدر لـ(الصيحة) فشل مول التيسير، لوجود نزاع بين مالكه والمحلية استمر لسنواتٍ، وقال إنّ الشخص الذي تَحَصّل على المول لم ينجح في تشغيله لأنّه مَرّ بظروفٍ خاصة به، واستنكر من تعطُّل العمل فيه لأكثر من سبع سنوات، وشبّه السوق المركزي ومول التيسير بمدينة سوبا التي تعرّضت للخراب فيما مضى بسبب (عجوبة)، وعلق قائلاً: إذا كانت منطقة سوبا بشرق النيل خربت بفعل (عجوبة)، فمَن عجوبة تلك التي تسبّبت في خراب السوق المركزي ومول التيسير والموقف القابع بجوارهما..؟

وقامت ولاية الخرطوم عبر محلية شرق النيل بإنشاء موقف للمُواصلات، وقيل وقتها إنّ الموقف من أجل جذب الناس للسُّوق، وبرّروا فشل السوق بسبب عدم وجود مَوقف للمُواصلات، ولكن الموقف لم ينجح وظَلّ بمُواصفاته الرائعة وبأمواله التي صُرفت فيه مُعطّلاً عن العمل، وأصبح مكاناً يأوي بائعات الشاي ومُستلزماتهن للأسف الشديد.

يرد عماد رزق، على هذه الجزئية بقوله: (الموقف تمّ إنشاؤه كموقف ربط حينما طرح وزير التخطيط العمراني بولاية الخرطوم الأسبق أحمد قاسم، عدة مواقف مواصلات بالولاية كمحطات ربط، وقال إنّ كل المواقف لم تنجح وظلّت أسمنت وحجارة).

تسويات

بدوره، أشار مدير الوحدة الإدارية والمسؤول عن السوق المركزي بشرق النيل لتحوُّل السوق الآن إلى مركز للبيع المُخفّض بعد النزع الذي تم لأصحاب العقارات بالسوق، وستكون هنالك تسوياتٌ مع مُلاكه بعد ذلك، ولكن المُهم الآن أنّه وبالتعاون مع اتحاد العُمّال تمّ الاتفاق على أن يكون سوقاً للبيع المُخفّض، وسيشارك فيه مُنتجو الخضر والفاكهة ووكلاء ومستوردو باقي السلع، وسيحوي السُّوق اللحوم بأنواعها، مُشيراً إلى أنّ بيع السلع بأسعارٍ مُخفضةٍ سيجذب إليه الناس ويُمكن أن يرتاده الناس من غرب كوبري المنشية لعدم وجود سُوق قَريبٍ منهم.

خسائر مالية

وفي السياق، يقول مسؤول بمحلية شرق النيل، إنّ عدم نجاح السوق يعود إلى منح (دكاكينه) لمُوظّفين ومُغتربين كان همّهم الربح، وحاولوا تأجير عقاراتهم لأصحاب النشاط الحقيقي بأسعار عالية، وذكر أن هنالك من حاول العمل فيه وعرضوا خضرواتهم للجمهور، غير أنهم تعرّضوا لخسائر مالية واضطروا إلى هجر السوق بعد ذلك، وأوضح أنّ السوق يفتقد إلى سلع أخرى ولا يُمكن للشخص أن يشتري منه الخضروات، وسيذهب إلى سوق حلة كوكو لشراء أشياء أخرى حاملاً معه خضرواته، كما لا يوجد بالقرب منه مركز للمواصلات.. أو مخبز أو صيدلية.

الوضع الآن

بعد حديث (الصيحة)، عن إهمال السوق المركزي للخُضر والفاكهة لأكثر من سبع سنوات، تدخّل معتمد شرق النيل السابق ناجي محمد علي، وتم الاتصال باتحاد عام نقابات عُمّال السودان والذي قام بزيارة للسوق، وأمّن بأن يكون سُوقاً للبيع بأسعار الكلفة، وبالفعل استجابت الشركات ووكلاء السلع المُستوردة وتم افتتاح السوق قبل أيامٍ معدودةٍ، ولكن هل ينجح السوق في جذب الناس إليه؟ أم تفشل التجربة مثل كَثيرٍ من التّجارب السّابقة التي حَاولت إنعاش السوق..؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى