Site icon صحيفة الصيحة

(الصيحة) تعيد نشر مقال الكاتب والأديب .. يوسف عزت يكتب.. إلى الجَسور إبراهيم الزبيدي..الذي توسّد أرض دارفور شهيداً للثورة السودانيّة

مضيت ، مضيت بالدرب لنهاياته ، مؤكداً وبجسارة صدق الموقف والإنتماء. مضيت متحدياً كل الشعارات لتكون شعاراً لمرحلة جديدة يختفي فيها التمييز والتقسيم والتعريفات العقيمة التي شابت طريقنا. الطريق الذي كنت قد خطوت في دربه منذ زمن بعيد حين وقفت جاهراً بصوتك ضد كل أشكال القمع والتمييز وحلمت بوطن متعدد السحنات واللغات ومتوحداً في الانتماء للناس لا لألوانهم أو عرقياتهم.

مضيت ولم يمضي المشروع معك ، بل أكدت بإستشهادك المعنى الكامن في مفاهيمناً نحن الجيل الذي خرج من دائرة التعريفات الضيقة لنواجه ضيق الآخرين، وإتسعت أمامنا قلوب وأشواق شعبنا، وبإستشهادك واقفاً في أرض المعركة على سفح جبل مرّة الصامد تؤكد إن المفاهيم والمعاني التي حملها مشروعك قد إنتصرت ، وتجاوزت بالإنتصار لتمنح شعب دارفور التوازن الكامل ، إنه طريق مضى عليه أرتالاً من الشهداء الذين تحوم ارواحهم في سهول ووديان دارفور لترسم غد افضل لشعبنا، وأنت لن تكون خاتماً لمسيرتهم ولكنك شهاباً ينير لشعب دارفور طريق الوحدة ويرفض في شموخ شعارات الساسة الذين يتعيشون لى مائدة جرحنا. لتكون أنت إبراهيم أحمد عبدالله جادالله ( الزبيدي) ود عريس إبن قرية صغيرة على حواف وادي ابوسكين ” أم سيالة” تلك التي منها جئت حاملاً إبتسامة الأمل وخطوت في الدرب الطويل والشاق لتأكيد إنتمائك للأرض وإنحيازك للضعفاء والناس العاديين ، رافضاً بريق الزيف والحياة الوادعة التي كانت بين يديك وكنت ستنال ما تريد لو إشتهيت الوظيفة او المال.

لقد وحّدت بموتك شعارات المقاومة ، وقاربت برحيلك في هذا الدرب لغة الثوار ، وركلت للأبد شعارات التقسيم ” عرب – زرقة ” أو ” افارقة وعرب ” وأكدت إنك إبن افريقيا وإبن الصحراء وإبن دارفور والسودان. وطنك هو طريق النضال مثلما كان وسيظل وطن الرحّل هو المسار أو المرحال ، وعلى مرحال الثورة فتحت افقاً جديداً ومشيت الخطوة الكاملة.

ماذا كان مشروع جبهة القوة الثورية المتحدة غير هذه المعاني؟ ماذا كان بيدنا غير هذا الواقع الذي أنجبنا والذي لم يتلون في عيونك بلون الزرقة او الحمرة ، بل كان الواقع حاضراً وهو إن دارفور هي دارفور الارض التي أنجبت وأستوعبت وصهرت سحنات أبنائها بإختلاف الوانهم وإن تاريخ القرون لن تهزمه شعارات مرحلة الغباش هذه ، فصدقت الرؤية وصدقت أنت مؤكداً قيادتك لهذا المشروع ومانحه روحك.

إن وحدة قوى المقاومة التي كانت هدفاً ، تحققت فاليوم رفاقك في كل مكان يجلسون مع شعب دارفور ، لا قبيلة لهم سوى قضية هذا الشعب الرازح لسنوات في معسكرات الزل وفي غياب الافق. هذا الشعب الذي يتلوا عليك اليوم الفاتحة ويمنحك الدعوات أن تستقر روحك في مدارها، هو الشعب الواحد المتعدّد والمتنوع. إن المشروع الذي ناضلت من اجله تحقق في وقوف ابناء دارفور اليوم رافعين شعار رفض الانقسام القبلي ومؤكدين عزمهم على رتق الحالة الشائهة التي خلفها نظام القمع ذو العقليّة القبليّة والذي وصل في البحث عن بقائه أن يضرب السلام الإجتماعي ويختار اسهل الطرق لقمع الثورة العادلة ، واليوم أنت تؤكد إستحالة حسم إرادة شعب اراد أن يعيش حراً على ارضه أو يموت واقفاً. شعباً لم يلن أو ينكسر في مواجهة الموت، واجه راجمات القتلة وهو أعزل، واجه تحديات الحياة بصلابة وخلق اسطورة جديدة للبقاء تحت نيران القصف الوحشي وتحوّل الدولة في يد فاقدي البصر والبصيرة إلى عدو لشعبها.إنه شعبك الذي من رحمه خرج الشهداء في مسيرتهم الطويلة عبدالله ابكر ، وجمّالي و مبارك خاطر عبد الرسول ، عادل شندي ، عثمان حجر ، قجّه سالم ،وآخرين كثر لا يتسع المجال لذكرهم، وتتوّج اليوم رحيلهم بإستشهادك واقفاً ، تواجه الغدر بإبتسامه وجسدك النحيل يعانق الرصاص. إن قبرك الذي حفره القتله ودفنوك فيه سينبت أطفالاً يقاتلون بشرف الانتماء لهذه الارض والحياة ، وسيصنعون مستقبلاً حافلاً بالمجد.” وحبات سنبلة تموت ستملأ الأرض سنابل ” كما غنى مارسيل خليفة ، تلك الاغنيات التي حملتها معك ، تلك الكتب التي كانت بقربك حين فارقتك آخر مرّة في سبتمبر 2008 وأنت تغادر عائداً للميدان ، المكان الذي إخترته طيلة هذه السنوات ولم تفارقه حتى هذه اللحظة ، بل سكنت ترابه اليوم للابد.

تتقاصر الكلمات يا “إبن أمي يا ابن اكثر من ابي” وما نكتبه عنك يخرج من حزننا المختلط بإفتخارنا بك ، بصمودك ، بعنادك الغريب ، وبكل المعاني التي اكّدت عليها ولم تتنازل شبراً واحداً لعدوك.

إن نساء دارفور اليوم لن يتمسحن بالرماد على فراقك ، بل يمنحنّك شبال الفراسة والصدق ، وسيغنّن عليك في زفّة الانتصار والتي ما زالت بعيدة ، وستمر بمنحنيات ومعارج ستسلكها خطوات شهداء آخرين.حينها سنزفّك عريساً على سرج الثورة و ” نَدق الحارِن” امام بهوك الفسيح.

إن رجال دارفور الواقفين بخط النار نعوك بالكلمات وبالمواقف ، وعمدوك شهيداً للزمن القادم بوعد السير على درب المعاني التي إنتصرت لها.

إن شعب السودان سيفتقدك حين يعرف معناك ، حين يلتفت الساهون لموتنا ويعرفون معناه وقيمته ، حين يخرج الساسة من أسوار المدن لسهول السودان الفسيحة وقتها سيعرفون أي وطن نناضل من أجله وأي أمكنه أتيت منها.

سيتذكّر طلاب وطالبات جامعة النيلين صوتك وهو يشق الاسوار معلناً عن الرفض والثورة ، زملائك وزميلاتك في الجبهة الديمقراطية سيعودوا لمحاضرهم ، ليتذكروا إنك كنت واحداً متفرداً، وربما في يوم من الايام يكتبوا نعياً في قامتك ، فأنت وللاسف لم تمت في المدن لتتسرّب للكورالات والشعر ، ولم تستشهد بين الاسوار لتنعيك الميدان ، ولكنك إستشهدت في الميدان ذاته ، وطوبى للغرباء في موائد صفوة المدن العتيقة، فأنت تضع النقطة على حروف دارفور لتؤكّد إن المواقف البراغماتيّة التي تتوسل بمأساتنا الكسب السياسي زائلة وإن التاريخ يكتبه أمثالك بصدق الموقف ونبل الإنتماء للحقيقة.

سيذكرك طلاب رابطة سبدو بالجامعات والمعاهد العليا ، الذين كنت رئيسهم وواحداً منهم وسيمجدونك شهيداً للثورة السودانيّة حين تعود الايام لدورتها العادية وسيفتخرون بك كما كانوا وأكثر.

سافتقدك رفيقاً وإبن عم ، وكل ما استطيع أن اقدمه لك كوداع أخير هو أن تظل المفاهيم التي حملناها ووصلنا بها للموقف الرّاهن حيّة ، وإن وحدة شعبك تتم وتلتقي على قبرك كل القبائل ترفع الفاتحة لحياة جديدة فتحت افقها بروحك. وأن نسير ورفاقك كلهم على درب المعاني التي أكدتها.

هنا وفي صيوان عزائك إجتمع الناس يذكرون سيرتك ، لقاءاتهم بك في الميدان وهي طويلة وفي جوبا وفي اسمرا وفي ليبيا في زياراتك القصيرة لها وفي ايام الدراسة وجميعهم اكدوا انك كنت انت وظللت أنت ورحلت أنت. لم يكن لك غير وجهك الحقيقي وكنت الزبيدي بكل جسارتك وبكل تحدّيك. فنم وسنرفع لك التحية بعد سنوات طويلة لنقول لك إن المعاني التي ناضلت من أجلها تحققّت ، أو ستجدنا بقربك هناك نتقاسم في العالم الآخر حياة أخرى.

 

هنا يودّعك صديقك ياسين يوسف ورفاقك حسين الفاضل وعمر سبيل وأحمد بريمة الذين كانوا معك في الميدان منذ الخروج الأول وهناك في كل المدن صديق او رفيق يطراك بالخير ويؤكد على المعاني ذاتها.

لك المجد ، والحرية والتنمية والإنتصار لشعبك

لك الحب ، وحضن الأرض والحياة.

 

Exit mobile version