المُمكن في السودان..!

“يا شمعة المُستقبل البصيرة، مالي أخافُ الطرق القصيرة.. يا وجه المُمكن، وَجه الأفق، غيِّر شمسك أو فاحترق”.. أدونيس..!

يقولون لك إنّ هذا العالم على امتداده قد أصبح قريةً صغيرةً، فتفرح مُستحسناً ذلك الزعم الذي يختزل المسافات بين ساحة اعتصام القيادة وسياج البيت الأبيض، وأبواب الكرملين، وسور الصين العَظيم، وعزلة الدلاي لاما، ونجوم البارسا والليغا، وأساطير هوليوود. لكنك تعلم جيداً أنّ الاتصال شيءٌ، وأنّ الوصول شيءٌ آخر..!

جمهورية لاتفيا التي تقع في منطقة بحر البلطيق، انتخب برلمانها قبل بضعة عشر عام الطبيب “الجراح” المغمور “فالديس زاتلريس”، ليكون رئيساً سابعاً للبلاد. وبينما كان هو يؤدي اليمين الدستورية، نظّمت المعارضة في بلاده مراسم لتنصيب “الأرنب الأول” على سبيل السخرية من أرنبه المدلل “ليسيس” الذي دخل مُعترك السياسة مع صاحبه، لكنه ما لبث أن فارق الحياة إثر إصابته باكتئابٍ حادٍ جرّاء الشعور بالوحدة. ثم غادر الرئيس صاحب الأرنب وجاء بعده رئيس شاب اسمه “فالديس فسكيس” مَجَّدته صحافة العالم الثالث من ذات “القرية الصغيرة”، لأنّه تقدّم باستقالته تعبيراً عن شُعُوره بالمسؤولية إثر انهيار سقف أحد المَتاجر ومصرع خمسين شخصاً من مواطنيه جَرّاء ذلك..!

أما في أوكرانيا، ثاني أكبر دول أوروبا الشرقية في ذات “القرية الصغيرة”، وذات النظام نصف الرئاسي المُنفصل عن السُّلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فقد حَدَثَ قام أحد مواطنيها وهو ممثل كوميدي اسمه “فلاديمير زيلينسكي” دور “رئيس الجمهورية” في مسلسل بعنوان “خادم الشعب”. وقبل انتهاء عرض الموسم الثالث من المسلسل قام “زيلينسكي” بإنشاء حزب سياسي باسم “خادم الشعب”، قبل ستة أشهر من إعلان ترشُّحه لرئاسة الجمهورية في بلاده..!

وعلى الرغم من افتقاره إلى الخبرة السياسية، فإنّه تَمَكّن من تجاوُز العقبات السِّياسيَّة، وحَقّقَ فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية على الرئيس المنتهية ولايته “بترو بوروشنكو”. وهكذا فاز “زيلينسكي” البالغ من العمر 41 عاماً  وحصد 73.2% من الأصوات في دورة الاقتراع الثانية مقابل 25.3% لخصمه “بوروشنكو”، صاحب الـ53 عاماً، الذي تراجعت شعبيته بسبب جهوده غير المُوفّقة لمعالجة الفساد وتدني مُستويات المعيشة، وفضائح الفساد المُتواصلة، لتبدأ بذلك صفحة جديدة “غير واضحة المعالم” – بحسب المُراقبين – في بلدٍ يشهد حرباً على أبواب الاتحاد الأوروبي..!

أعلم أنّ مُعظم القُرّاء قد سئموا ضرب الأمثلة – ببعض سُكّان “القرية الصغيرة” – بلا طائل، سوى تفاقُم الأحوال التي تستحق ضرب المزيد والمزيد من الأمثلة. لكن تبقى لنا أن نضرب مثلاً أخيراً بتجربة الجيران..!

ميزة الثورة المصرية ومُشكلتها أيضاً!، أنّها قامت فعلاً مبنياً للمجهول، بضمائر مُستترة، وأبطال مُخلصين حقاً، لكنهم ذائبون في جموع التكسير وزحام العالم الافتراضي، فأهم رموز باكورتها لم يكونوا قياديين سياسيين بل مُفكِّرين ومُثقّفين، طُموحاتهم وطنية وليست سِيَاسِيّة..!

فالمُعارضة في مصر – شأنها شأن المُعارضة في بلادنا انتهت إلى كيانات مُتيبِّسَة تصلّبت مفاصلها بعد طُول رقاد، وبدَّلت أجندتها المُساومات، ففقدت ثقة الشعب في جدارتها بقيادة التّغيير. ولكن رغم ذلك انبثق الإخوان المسلمون – أبعد الناس عن الديموقراطية بمفهوم معظم سُكّان وجيران القرية – من عدم الخيار، وفراغ الثقة، ثُمّ حكموا، وسادوا قليلاً، ثُمّ بادوا..!

فما الذي نُريده نحنُ بالضبط؟!. وكيف نُطالب بحُرية الرأي والقرار، ونحن أبعد ما نكون عن العقلية التّداولية، وأقرب ما نكون إلى أدلجة التصنيفات وتسييس الأحكام؟!. لأجل ذلك كُلِّه، لا بُدّ أن نسأل السؤال المُر “هل نستحق الديموقراطية فعلاً بحالنا الذي نشهد”..؟!

قبل أن نسهب في استعراض الحلول، لا بُدّ أن نتحرّى الدِّقة في الإجابة على السؤال “العلقم” أعلاه، قبل أن يستحقّنا مستبدٌ عادل، أو ديكتاتور مستنير، يتحرّى الدقة في تهشيم ما تبقى من أضلاع الديموقراطية، في هذا الجسد الوطني العليل..!

منى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى