من حَقّهم أن لا تُمثِّلَهم..!

“الحزن لا يَتخيَّر الدمع ثياباً كي يُسمى في القواميس بكاء، هو شيءٌ يتعرَّى من فُتات الروح، يعبُر من نوافير الدم الكبرى ويخرج من حُدود المادة السوداء. شيءٌ ليس يَفنى في محيط اللون أو يبدو هلاماً في مساحات العدَم. الحزن فينا كائنٌ يمشي على ساقين”.. الصادق الرضي..!

أكتب هذا المقال وأنا أكفكف دموعي بعد نوبة بكاء ظللتُ أغالبها طويلاً، وأنا أتابع حكاية الحاجة “خادم الله” والحاج “عثمان”، والدي الشهيد “المعز” اللذين استضافتهما قناة النيل الأزرق عصر يوم أمس. قلبان منكفئان، نفسان حسيرتان، روحان تختنقان، يدان مغلولتان. وقاتلٌ طليقٌ، وشهادة وفاة لم يتم استخراجها حتى الآن. شأنها شأن شهادة ميلاد حكومة ما بعد الثورة، فإلى متى نتظلَّم، وإلى أين نَسير..؟!

“المعز عثمان” الابن البكر، البار، كان عريساً يجتهد في استكمال “الشيلة” وينتظر أن تُزف إليه عروسه، عندما اغتالته رصاصة غدر، في اليوم السابع من شهر أبريل، وهو يؤدي واجبات عمله في مكتبه بمبنى الهيئة العربية للاستثمار.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).

استشهد “المعز”، والموت عند العارفين حياة. وهو من ابن حنبل – إلى ابن تيمية، إلى الحلاج، إلى – ابن عربي، إلى النورسي، يقين وبداية، وتبديل مكان وتحويل وجود. وهو فوق ذلك صيرورة. وكل كائنٍ من حبة القمح، إلى النملة، إلى الملوك والسلاطين صائرٌ إليه..!

ولكن على الرغم من كل اليقين الإنساني المُتوارث بشأنه، يظل الموت أزمة سيكولوجية، تصهر روح الحي بعد رحيل الميت. فالناس لا يبكون الموت كحدثٍ، بل يبكون الفراق – أعظم تداعياته وأشدها إيلاماً –  يبكون إدراكهم لفكرة الرحيل الأبدي..!

فإلى متى تُذرف الدموع على شهداء الثورة دُون قصاصٍ ناجزٍ عادلٍ، يشفي صدور قوم مؤمنين؟!. إلى متى يبقى صُنَّاع الثورة الحقيقيون في ساحات الاعتصام، يحرسون ثورتهم، دون حضورٍ عادلٍ شاملٍ يمثلهم حقاً على طاولة التفاوُض؟!. إلى متى يتغوَّل كهول السياسة على حقوق الشباب وينتزعون أدوارهم ويختطفون مُكتسبات ثورتهم..؟!

قبل سنواتٍ مضتٍ كتبتُ – في هذه المساحة – كيف وكم أنّ سنوات العجز والانتظار والتمييز المهني على أساس العُمر هي قنابل ثورة موقوتة في أيدي الشباب، وقد كان!. فالتمييز العُنصري على أساس العمر، داءٌ استوطن عصب المُمارسة السياسية في هذا السودان، ولم يسلم منه الشباب حتى بعد أن أشعلوا ثورتهم، وثابروا وصابروا، وقدموا الشهداء في سبيل انتصارها، والذي ما أن تَحَقّقَ حتى شَرَعَ كُهول الأحزاب في اختطاف ثماره، تَوطئةً لاقتسام السُّلطة، وليتهم أفلحوا – بعد ذلك – في صياغة ائتلافٍ أو تشكيلٍ..!

اقتصار الحكمة السياسية على أفواه الشيوخ فلسفة قديمة سَقط منطقها وتهافتت نظرياتها في برلمانات ومجالس وزراء العالم الأول، ثم تلقَّفت ذلك التّغيير حركات البعث والتجديد السِّياسي في بعض بلاد العالم الثالث، لكن الشباب في هذا السودان لا يزالون يبحثون عن أدوارهم بين زحام الساسة المُخضرمين ومطامع الأحزاب البائدة..!

بعد هذه الثورة – أو كنتيجةٍ راجحةٍ لها – جاء انقلابان. وعوضاً عن التهديد بصناعة أسباب انقلابٍ ثالثٍ، على شباب الثورة أن يُبادروا بإضرام ثورتهم الثانية، ثورتهم الخاصّة. أن يصنعوا ثورةً جيليةً عارمة داخل هذه الثورة. أن يدركوا أنّهم قادة وليسوا أتباعاً، وأنّهم الأولى بتمثيل ثورتهم، وحراسة مكاسبها، كأفضل ما يكون..!

وإن كان من تمثيلٍ لا بُدّ أن يعتد به، فهو أن يُمثِّل شباب هذه الثورة أنفسهم، وأحلامهم، وأوجاعهم، وحقوق شهدائهم. لا أن يقولوا إنّ هذا الجَمع أو ذاك الكيان يُمثِّلهم، وهو بالكاد يَقوى على تَمثيل نَفسه..!

منى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى