Site icon صحيفة الصيحة

منى أبو زيد تكتب.. لا تُعكِّروا مِزاجَنا..!

هىاك فرق

منى أبو زيد

“الكثيرون لا يعرفون أن البعض يبذلون جهوداً جبارة لكي يكونوا مجرد أناس عاديين”.. ألبير كامو..!

في عالم المطبخ هنالك سوائل بعينها يُستحسن أن لا تضعها على النار ثم تشرع في عمل شيء آخر، وعليك أيضاً أن لا تنشغل عنها بالتفكير العميق في أي شأن. فاللبن مثلاً، أو شاي اللبن “المقنن”، أو القهوة – عندما تُصنع على أصولها بماءٍ بارد وعلى نارٍ هادئة – كلها تتحول عند بدء الغليان إلى سوائل مُلهمة للذهن ومحرضة على التفكير..!

ما أن تضعها على النار حتى تعلمَ ما جَهِلت، وتَجِد ما أضَعت، وتَذكُر ما نَسيت. فما بالك – والحال كذلك – بمتابعة مقاطع عشوائية على برنامج “التيك توك” وأنت تقف أمام “تنكة” القهوة، بانتظار أن تتكون تلك الرغوة الهادئة، المحببة، التي تُنعش الذهن، وتَجُم الفؤاد، وتَطرد الإرهاق، وتَجبر الخاطر..!

إعداد فنجان قهوة “مضبوط” بالطريقة المُثلى – وكما قال الكتاب – يتطلب الانتظار لبضع دقائق تكفي لمشاهدة بعض المقاطع على ذلك التطبيق. وعليه فقد كنتُ أقِفُ أمام قهوتي المُرتقبة قبل ساعات وأنا أتسلى بالمتابعة. شاهدتُ بفضول نصائح “نيرفانا” السعودية بشأن اختيار أفضل “براندات” العطور النسائية عالية الثبات، وتابعتُ باهتمام حسناء لبنانية كانت تمسك بيدها كيساً من الصمغ العربي من إنتاجنا المحلي وهي تتحدث عن فوائده المذهلة في التخسيس والوصول إلى الوزن المثالي بشكلٍ آمن. ثم خطَفتْ قلبي طفلةٌ شقراء، زرقاء العينين، رائعة الجمال، كانت تحاول أن تقضم شطيرةً “أفوكادو” ضمن وجبة غدائها الحافلة بالطعام الصحي..!

كان وجه القهوة قد تَكوَّن على نحوٍ رائع بانتظار الغليان عندما قفزت إلى الشاشة سيدة سودانية متوسطة العمر، مليئة القوام، تضع الكثير من مستحضرات التجميل، وتُحرِّك رأسها متوعدةً وهي تصيح مهددةً شخصاً ما – فهمتُ من حديثها أنه غريمها على ذات التطبيق – وفهمتُ أيضاً أنه يقيم معها في ذات الدولة الأوروبية التي تقيم فيها نساء أخريات من غريماتها اللاتي اختار هو أن يقوم بمناصرتهن في حربٍ ضروس قُمن بشنِّها عليها..!

كانت السيدة تتهم ذلك الشخص – الذي تظهر صورته التي قامت هي بنشرها أنه شابٌ في مقتبل العمر – بأنه مصاب بمرض الإيدز، وتتهم من يقوم هو بمناصرتهن في حربهن عليها بأنهن أيضاً مصابات بمرض الإيدز. وبعد شتائم يعف اللسان عن ذكرها وتعف الأذن عن سماعها وتعف القهوة عن البطء في الغليان في أثنائها، ختمت حديثها وهي تخاطب ذلك الشاب قائلةً “أمشي أفحص”. وختمَتْ قهوتي غليانها بالفوران والاندلاق على سطح “البوتوجاز”، وختمتُ أنا لحظات انتظاري بفنجان قهوة بلا ملامح..!

جلستُ أشرب قهوتي وأنا أفكر بمقاطع أخرى شبيهة لنساء ورجال آخرين من بنات وأبناء بلدي الذين يبدو أن لوثةً ما قد أصابت عقولهم، فصاروا يُظهرون أسوأ ما فيهم وينشرون أسوأ ما عندهم من بضاعةٍ كاسدة على مواقع التواصل والتنافر والتناحر الاجتماعي. هل هذه لعنة حلت بهذا السودان يا تُرى، أم أنها بعض حقيقتنا التي كان يخفيها الزمن قبل أن تظهرها بعض منشورات الفيس بوك ومقاطع “التيك توك”؟. أين كنا، وأين صرنا، وإلى أين نمضي بحالنا وبأنفسنا، في لجة هذا الواقع الافتراضي اللعين..؟!

ثم، لماذا تكثر المشاهدات والردود على هذا النوع من المقاطع؟. أرسطو يفلسف هذا السلوك البشري العجيب مؤكداً أن التفرج على عيوب الآخرين يشعرنا بالفرح، وأن رؤية الناس في مواقف غير لائقة تشعرنا بأننا أفضل حالاً منهم. أوليس هذا ما يحدث – بالضبط – لملايين المشاهدين الذين لا يخفون استمتاعهم بمشاهدة مقاطع نشر الغسيل تلك..؟!

إنه الفضول – جبلة البشر – الذي يجعل البعض يستجيبون لإغراء التلصص من فتحات النوافذ المواربة، واستراق السمع من خلف الأبواب المغلقة، فما بالك بالأسرار والفضائح التي تأتيهم سائرة على قدمين، يفجرها أصحابها على مسامعهم طوعاً – وعن طيب خاطر – أمام الكاميرات، طمعاً في جني المال من وراء المشاهدات. ولكل فضيحةٍ جديدة ثمنٌ باهظ يودع في حساب صاحبها الذي يقوم بنشرها على رؤوس الأشهاد..!

يبدو – والله أعلم – أنّ أولئك المذعنين لمقتضيات العولمة قد فشلوا في اختبار حقيقيٍ ودقيق لفحص مسلماتهم الثقافية، المستوردة من مناخاتٍ مغايرة، لا تشبه تضاريسهم الاجتماعية في شيء. أما كل من يدخل ويتفرج، فيعترض أو يمتعض، فسوف يخرج بنفسٍ حَسيرة، ومزاجٍ عَكِر، وفنجان قهوة ليس على المَزَاج..!

 

Exit mobile version