حامد محمد النايريكتب : لا يستقيم الظل والعود أعوج

في العام 1987م التقيت كعادتي بصديقي اللواء شرطة عبدالله حسن سالم مدير عام قوات الشرطة السودانية آنذاك, على أبواب المدرسة التي كان أبنائي وأبناؤه يدرسون بها.. وهي على مرمى حجر من مقر اقامة سعادته بالخرطوم حي المقرن..

تبادلنا واجب السلام والتحايا والسؤال عن الأحوال, ثم دلفنا معاً الى فناء المدرسة التي فوجئنا بأن أبوابها مغلقة الى أجل غير مسمى, بقرار صادر عن معتمد محافظة الخرطوم وقتها.. السيد مهدي مصطفى الهادي..

تفاجأت أكثر من اللواء واسترعى انتباهي ردة الفعل التي ارتسمت على وجهه حتى جحظت عيناه من محاجرها.. فأظهرت لي عدم علمه بذلك القرار مثلي تماماً.. الأمر الذي جعلني لا أتمالك نفسي في تلك اللحظة من هول الدهشة والمفاجأة.. فأنتابني شعور دفعني بلا تردد أن أواجه سعادته بالسؤال, عن كيف فات على علمه الإلمام بمثل ذلك القرار, الذي لا شك أن له حيثيات متعلقة بمؤسسته التي يرأسها, ويتربع على عرشها, وتقع في نطاق اختصاصه, ومسؤوليته المباشرة.. ثم تماديت في مشاكسته ومعاتبته وانتقاده بعبارات انطوت على شيء من السخرية والتهكم وشيء من الدعابة تلطفاً به.. وبحكم الصداقة التي تربط بيننا تجرأت في مطالبة سعادته بالاستقالة والتنحي عن منصبه الذي ظننت أنه لا يستحقه. اذا كان ذلك هو مستوى الأداء المهني والحس الأمني لدى سعادته كجهة أمنية مناط بها أساساً استباق الآخرين في الحصول على أي معلومات والإلمام والإحاطة بها وتحليلها للاجراءات الوقائية, لكل صغيرة وكبيرة يمكن أن تحدث في أي وقت من الأوقات, وبأي بقعة من بقاع الوطن, للحيلولة دون وقوعها أو استدراك آثارها ان وقعت بأقل الخسائر.. ناهيك عن دائرة اختصاص سعادته.. ثم ختمت حديثي معه دون أن أسمع من سعادته رداً على أسئلتي التي لازمتني الى حين..

استدعيت تلك الحادثة من الذاكرة البعيدة بعد أن مضى عليها زمان من خلال متابعتي للظواهر الاجتماعية السالبة والإنفلات الأمني في عدد السيارات الكثيرة التي تجوب شوارع المدن والأرياف بلا لوحات.. وتفشي حالة من الفوضى, من عمليات النهب والسطو والتعدي والإرهاب في البيوت والطرقات وكل مكان لمجموعات متفلتة خارجة على القانون, ولكنها على مرأى ومسمع من القانون وقوات الشرطة.. مما يشير الى خلل وتدني وتراجع ان لم يكن تراخياً مقصوداً في الأداء الشرطي الذي صار يشعر به المواطن ويحسه ويراه الآن أكثر من أي وقت مضى وبدأ يزعزع ثقته في قوات الشرطة.. وهنا يكمن القلق والخوف والتساؤل الذي لا بد له من اجابة بمراجعة ومعالجة شافية وكافية وحاسمة تضع الأمور في نصابها, وتعمل على استعادة الثقة المفقودة لدى المواطن في قوات الشرطة ويجب قبل ذلك ان تعيد لقوات الشرطة هيبتها, وثقتها بنفسها باعتبارها السلطة التنفيذية التي تنتهي عندها بقية السلطات الأخرى والقوانين والتشريعات والنظم والأوامر والموجهات حين يتم تنزيلها على أرض الواقع..

وتعتبر قوات الشرطة بمختلف أقسامها وفروعها من أهم مكونات المنظومة الأمنية, ضمن القوات النظامية الأخرى, لدى أي دولة حديثة, لأهمية الأدوار التي تضطلع بها والمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقها في حماية أمن المجتمع, وبث الطمأنينة بمواجهة المخاطر ومحاربة الجريمة وملاحقة الفساد وهي تقوم بتأمين المنشآت الحيوية والمواقع الخدمية في الدولة كالمؤسسات الحكومية والوزارات والمطارات والمستشفيات والمحاكم والأسواق والبيوت والطرقات في المناسبات العامة والخاصة على مدار الليل والنهار.. وهي بالتالي صمام الأمان ومفتاح الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. ولخطورة المهام والواجبات التي تقوم بها وأهميتها في بسط الأمن وحفظ النظام, فإن قوات الشرطة كجهة تنفيذية بحاجة لمستوى عال من التأهيل والتدريب والكفاءة العلمية والتقنية والتطور والجاهزية لتحقيق المواكبة والضبط والربط ولتتمكن من أداء رسالتها على الوجه الأكمل..

وكما هو معروف عن قوات الشرطة السودانية عبر تاريخها الطويل وسجلها الناصع بالانجازات العظيمة والمواقف المشرفة منذ تأسيسها على مستوى القيادات والأفراد بأنها الأكفأ على مستوى المنطقة العربية والافريقية.. بل كان لها الفضل في تدريب وتأهيل قوات الشرطة لكثير من تلك البلدان..

يمكن أن تتعرض قوات الشرطة مثلها مثل غيرها من مكونات الدولة لكثير من المخاطر, والصعوبات والمواقف التي قد تحد من أدائها أو قد تفسد رسالتها أحياناً.. ولكنها قد تستطيع تجاوزها أحياناً أخرى.. وفي جميع الأحوال فإن المتأثر الأول بالنتائج سلباً أو ايجاباً هو المواطن باعتباره المعني بخدمات الشرطة التي تقدمها له, والمرتبطة بأدق تفاصيل حياته اليومية.. ولهذا السبب فإن قوات الشرطة هي بمثابة القلب من الجسد, اذا صلحت صلح الأمر كله, واذا فسدت فسد الأمر كله.

وعليه فإن الدولة (أيما دولة) تعجز عن تأهيل قواتها من الشرطة في مساراتها المختلفة, وتخصصاتها المتعددة بتوفير احتياجاتها ومتطلباتها اللازمة للقيام بمسؤولياتها وهي بهذه المكانة من الأهمية في تحقيق الاستقرار النفسي والأمني, فلا شك في انها هي الأقرب الى الفشل الذريع في كل شيء..

وبرغم ادراكي لما تمر به الحكومة الانتقالية الحالية من ظروف وتعقيدات وإشكالات وأعباء يرى البعض انها أكبر وأهم مما أتحدث عنه, إلا أنني ومن واقع معايشتي الطويلة ومعرفتي اللصيقة بأهمية تأثير الشرطة في مجريات الحياة اليومية استطيع أن أقول ان في اصلاحها اصلاح لكل شيء, وفي إهمالها لن تقوى الدولة على تنفيذ ما تنشده من سياسات وبرامج على الوجه المطلوب.

ومن منطلق وطني, اقترح وأناشد أن تعاد لقوات الشرطة مكانتها التي تستحقها فتعود سيرتها الأولى القائمة على قومتها, بعدم إقحامها في المعادلات والمزايدات والتعيينات السياسية, وعدم استيعاب من يريدون الإنتماء اليها مالم يستوفوا الشروط اللازمة, خاصة في ظل توقيع اتفاقيات السلام الأخيرة, والتي من ضمن مخرجاتها أن يتم استيعاب بعض منسوبي حركات الكفاح المسلح في قوات الشرطة والقوات النظامية الأخرى وفوق هذا وذاك أن يتم تأهيل كوادر قوات الشرطة التأهيل اللازم واعطائها المقابل المادي والأجر المجزي الذي يحقق لها الإكتفاء وعدم اللجوء تحت ضغط الحاجة وضنك العيش الى التنازل عن الأخلاق والنزاهة وأمانة المهنة والشرف والتضحية بأرواحهم في سبيل الواجب الوطني.

وحتى لا يتحول الشرطي في خضم التجاهل والإهمال الذي يلقاه من قبل الدولة فيتحول الى كائن ضعيف النفس تتقاذفه الأمواج, وتهزمه مغريات الحياة, فيسلك الطريق غير المستقيم فلا يستقيم الظل والعود أعوج..

أنا حامد محمد الناير, كمواطن سوداني حريص على مكتسبات وطني فإني أناشد الحكومة الانتقالية الحالية ممثلة في مجلس السيادة برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان, والفريق محمد حمدان دقلو وبقية أعضاء المجلس السيادي ومجلس الوزراء برئاسة دكتور عبدالله حمدوك, وبقية الوزراء والمسؤولين في الدولة ومنظمات المجتمع المدني وحركات الكفاح المسلح وقد أصبحت جزءاً من الحكومة الانتقالية, والشخصيات المستقلة, في مختلف المجالات, وجميع المواطنين داخل وخارج الوطن بمختلف انتماءاتهم السياسية, ومعتقداتهم الفكرية والدينية وأثنياتهم العرقية, أناشدهم جميعاً بانشاء صندوق قومي لدعم قوات الشرطة السودانية, تتبناه جهة رسمية برئاسة مدير عام قوات الشرطة السودانية, خاص بتوفير احتياجات الشرطة تحديداً للنأي بها عن أسباب التقصير في القيام بواجباتها, التي تمس حياة الجميع بشكل مباشر كما أناشد وأخاطب كل مواطن سوداني غيور على وطنه, بصرف النظر عن من يحكم ومن يعارض أن يتبرع بالمال والدم لصالح قوات الشرطة السودانية إمعاناً في قومتها حتى يشعر رجل الشرطة بالإنتماء لكل الشعب السوداني وليس للنظام الحاكم, كما يشعر المواطن كذلك بأن قوات الشرطة هي قواته هو وليست قوات من يحكم..

والسلام

حامد محمد الناير

ورشة الوفاء الهندسية – الخرطوم

المنطقة الصناعية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى