صلاح الدين عووضة يكتب : سهرٌ ودموعٌ !!

 

وغنى المغني:

يا عيون ابكِ دمع الدم…

الزمان بعذاب حكــــم…

ولكن هل الزمان حكم بعذابه؟… أم هو الذي حكم على نفسه بالعذاب اختياراً؟..

والوجودية تسمى لحظة الاختيار العدم..

أو اللحظة العدمية؛ وما أكثر لحظات العدم لدى الإنسان خلال رحلة حياته..

فالخيارات حين تصير أكثر… يصير العدم أقسى..

وذلك إذا اعتبرنا العدم – بالتوصيف الفلسفي الوجودي – تجربة إنسانية تُحس..

أي إنه ليس انعدام وجود؛ وإنما وجود انعدامي..

وأبو الوجودية – سورين كيركيجارد – أول من عاش من الوجوديين هذه التجربة..

أو أول من لاحظها… وشخصها… ورسم معالمها فلسفياً..

أما بقية الناس فيتعايشون مع قدرية الاختيارات من منظور غيبي… ولا يعيشونها..

فيسمونها الظروف… أو المقادير… أو القسمة والنصيب..

ومنهم من يذهب إلى أكثر من ذلك – توغلاً في الغيبيات – فيسميها (العمل)..

فتصديق القوى الخفية – تفسيراً – هو أيضاً خيار..

وداعي كلمتنا هذه اليوم تذكري خيار أولى الشهادة السودانية قبل سنوات..

وذلك عندما سُئلت عن اختياراتها الدراسية… فالعملية..

فقالت – وسط دهشة الكثيرين – الإعلام… فقط الإعلام… ولا شيء سواه..

ولكنها ليست أول من أثار مثل هذه الدهشة..

فأوباما – مثلاً – كان أول دفعته… والتحق بهارفارد… واختار القانون..

وكان بمقدوره دراسة الطب… أو الهندسة… أو الفيزياء..

ولكنه أصرّ على اختياره؛ فصار رئيس الولايات المتحدة… واشتهر..

ومحمد أحمد المحجوب كان أول دفعته؛ واختار الطب..

اختاره إرضاءً لأسرته… وأهله… وعشيرته… وثقافة العقل الجمعي للناس..

ثم اختار الخيار الثاني إرضاءً لنفسه هذه المرة؛ القانون..

فصار محامياً وقاصّاً وأديباً شهيراً؛ وسياسياً ودبلوماسياً ورئيس دولة أشهر..

والترابي كان أول دفعته…. وبفارق كبير..

ولم يختر من بين كليات الجامعة سوى القانون… غير عابئٍ بخيارات الآخرين..

فصار حسن الترابي المعروف… اختلفنا أو – اتفقنا – معه..

وأنيس منصور كان أول الشهادة المصرية… وهو طوال مراحل دراسته الأول..

 

واختار الفلسفة بمحض إرادته… وقال إنه حرٌّ في اختياراته..

ثم اختار – عقب تخرجه بامتياز – دنيا الصحافة..

وصار أنيس منصور الذي لا يحتاج إلى تعريف؛ عربياً… وإقليمياً… وعالمياً..

وملهمة كلمتنا هذه – ست البنات – اختارت الصحافة أيضاً..

ولكنها – حسب ظني – تعيش حالة العدم الوجودي… في أسوأ تجلياته..

فجميع الخيارات – من حولها – تتعارض مع اختيارها..

وكانت نصيحتي لها – رغم إيماني بحرية الاختيار – أن تبعد عن الإعلام..

أو على الأقل ليس في زماننا الحالي هذا..

ومضى ذاك الزمان… وزمان الإنقاذ… وجاء زمان الثورة..

وانقطعت عنا أخبارها؛ وأخبار اختيارها… ولحظته العدمية..

وأخشى أن يكون خيارها ذاته قد بات عدماً..

 

سيما بعد أن أدركت انسحاب مظاهر الفشل حتى على الإعلام… والصحافة..

وحلول العبيد مروح الثاني محل العبيد مروح الأول..

وختاماً؛ كل الذين ذكرناهم هنا – كنماذج – نجحوا في اختياراتهم… مع الشهرة..

صاروا – جميعهم – ملء السمع والبصر..

وكاتب هذه السطور – في اتّجاهٍ مُعاكسٍ – اختار الفلسفة… ثم الصحافة..

فعاش لحظات عدمٍ اختياري… ثم سنوات عدمٍ حياتي..

فحاكى حاله حال المغني:

يا عيون ابكِ دمع الدم…

الزمان بعــذابي حـكم…

سواء ما قبل الثورة – أيام نظام المعزول – أو ما بعدها..

فلم يصر – أبداً – ملء السمع والبصر..

وإنما……..

الدمع والسهر !!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى