مُنى أبوزيد تكتب : في مَحطات الوصول..!

 

“الوعود السياسية في قطارات التغيير هي أمتعة غايةً في الخفة، ويسهل جداً الإلقاء بها من النوافذ عند محطات الوصول”.. الكاتبة..!

لم أفقد إيماني يوماً بأن في هذه الحياة دوماً مساحةً رماديةً، ضاجةٌ بالتعقيدات، وحافلةٌ بالتناقض، لكنها أيضاً غنيةٌ بأوجه الشَّبه، ومُوجبات الالتقاء مع بعضنا كأُناس، والانتماء إلى كلنا كبشر. لا يُمكن للإنسانية أبداً أن تختزل نفسها في خيرٍ صرف أو شرٍّ محض..!

وإن كان اختلاف وجهات النظر بشأن الوطنية كمفهوم هو ما يفرق الناس فإن الوطن هو ما يوحِّدهم. حَريٌّ بنا – إذن – أن نستثمر بعض الاحتمالات على اختلافها، لا أن نبددها بتأكيد السيئ منها. أن ندرك أننا عندما نسعى إلى التغيير الإيجابي بأرقى الوسائل، لا نُغيِّر الماضي بل نُغيِّر المستقبل. هل اتفقنا على هذا..؟!

حسناً، إن كنا قد اتفقنا فدعني أحدثك عن بعض سلوك البشر الخطائين عندما يستحوذ عليهم الاقتناع بأي فكرة، جداً، جداً. أولئك الذين يرهنون العيش في عالم مثالي، وتحت ظل سلطة مثالية، وبين ظهراني مجتمع مثالي بزوال حكم الإنقاذ. فيصورون بيئة التعامل الاجتماعي والعمل العام في السودان – قبل مجئ حكومة الإنقاذ – وكأنها كانت مدينة فاضلة. وهذا ليس صحيحاً، ليس لأن فترة حكم الإنقاذ لم تكن كارثيةً وسوداويةً بما يكفي، بل لأن هنالك دوماً مساحة رمادية في سلوك الشعوب والحكومات على إطلاقها – وهي مساحة ضاجّة بالنجاحات والتعقيدات، وحافلة أيضاً بالنبل، والخسة، والفشل، والوفاء، والتناقض، وعليه فلا يمكن اختزال المواقف والأحداث – وبالتالي إطلاق الأحكام – في صورة خيرٍ صرف أو شرٍّ محض..!

وقد لاحظتُ أن هذا النوع من الإيغال في الشجب والتنديد بأفعال ومواقف، وأهداف ومآرب، وعلل وإشكالات واقع ما بعد الثورة في بلادنا ينتهي في الغالب بإرجاع كل كوارثنا السياسية إلى عهد حكم الإنقاذ، الذي مات وشبع موتاً. وهو أمرٌ يكثر عند البعض لكثرة عاطفتهم الثورية الجيّاشة ربما. بينما الموقف الأكثر واقعيةً هو خوف الذين يتمسّكون ببعض الموضوعية على أداء هذه الحكومة، فيقلقون من بعض مُعالجاتها، وينتقدون شططها أو تقصيرها بدافع الحرص على تحقيق التحول الديمقراطي المنشود..!

والحقيقة أن صيغة المبالغة تلك هي حال لا يُمكن تفكيك أسبابها بعيداً عن أزمة النُّخب السياسية القديمة المتجددة في هذا البلد، وتاريخ إشكالات الممارسة الديمقراطية للحكومات السودانية – على تعاقبها واختلافها – وتلك الهزائم النكراء التي حاقت بالحرية والسلام والعدالة في قعر بيت معظم المؤسسات الحزبية السودانية نفسها..!
لعلها “عقدة استوكهولم” هي التي تجعل بعض اللا منتمين سياسياً – من أمثالنا – لا يكتفون بأن يُحمِّلوا حكومة الإنقاذ وزر كل شيء. لعلها لعنة الخوف من عودة التهميش والإقصاء والاستبداد بالرأي والانفراد بالقرار – في ثوبٍ سياسيٍ قشيب. لست أدري بالضبط، لكن الذي أدريه هو أن إشكالية الحكم الرشيد في هذا السودان تبدأ من عيوب النشأة واضطرابات التشكيل، وانعدام المراجعات الفكرية للتجارب..!

والنتيجة هي عجز من تكون في يده السلطة دوماً – في هذا السودان – عن احتواء الكثير من القواعد الواعدة المستنيرة المؤمنة بالتغيير. حتى بات الوجه الآخر لفشل الإنقاذ نفسها هو تقاعس بعض مكونات حكومة ما بعد الثورة – المنشغلة بصراعها على السلطة – عن أن تنهض بمُعالجات وطنية خلاقة، تقترب بمواقفها ووقفاتها من أوجاع هذا الشعب، بتطلعاته الحقة، وأولوياته الحقيقية. وهنا يثور السؤال الأعظم، إلى متى تتخبط النخب السودانية في تفعيل ما تؤمن به وتدعونا إليه، ثم إلى من تُسلّم قيادها، وإلى أين تقودنا نحن”..؟!

الحقيقة أن الدعوة إلى التأمُّل في رحابة وجوه الاحتمال التي قد تحملها الإجابة هذا السؤال – واتّساع المسافة الفاصلة بين مُنتهى “السِّيولة” ومُنتهى “اليَباس”، – هي مربط فرس هذا المقال!.

 

 

مُنى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى