Site icon صحيفة الصيحة

د. الهادي أبو ضفائر يكتب :   جريمة اغتيال الدولة السودانية (1)

بقلم

في هذا المقال نتناول مشاركة النخب بكافة شرائحها في جريمة (اشتراك جنائي) اغتيال الدولة السودانية.

كالعادة الدول لن تموت بالجلطة الدماغية ولا السكتة القلبية وإنما تموت بأمراض مزمنة طويلة الأجل تصاب بها على مدى زمني طويل وتتراكم حتى تجهز على الدولة وتهدم بنيتها الأساسية. في حالة الدولة السودانية لدينا مجموعة اشكاليات برزت وظهرت على الفضاء السوداني مع بداية تشكيل الدولة السودانية، نجملها في عدة محاور، ليست على سبيل الحصر وإنما كوقائع وأدلة وبينات تعاضدت وتكاتفت وتساندت في اغتيالها.

 

عدم امتلاك النخبة لتصور واضح ورؤية ثاقبة ومنهجية مؤصلة عن فكرة الدولة وشكلها، هل قائمة على أساس جغرافي الكل فيها مواطن من الدرجة الاولى بغض النظر عن الانتماءات الأخرى؟ او دولة قائمة على أساس ديني بناء عليه يتم تقسيم الشعب الى درجات؟ أم أنها قائمة أساس عرقي  فيها تقاس درجة المواطنة بحكم الانتماء القبلي. لم يكن وقتها في مخيلة النخبة السوذانية آنذاك تصور بعيد المدى، كما أن البنية الأساسية للفكرة السياسية لم تكن واضحة المعالم وفي أي الاتجاهات يتبلور شكل الدولة لم يكن في الحسبان.

غياب المنهجية أدى الى بروز مدارس مختلفة منها مدرسة السودان للسودانيين ومدرسة الوحدة مع مصر، وكذلك صراع الانتماء الأفريقي والعروبي. هذا الصراع أخذ منا زمناً طويلاً آل إلى حروب، دماء وأشلاء نتج عنها تفكك الدولة السودانية مما أظهر مجموعة أزمات بلغت حد الإبادة الجماعية في بعض المناطق.

هذا الأمر يدلل على وجود مشكلة حقيقة في عالم الأفكار لدينا، لأننا لم نؤطر إطارًا سياسياً واضح المعالم كيف يكون شكل  الدولة، شكل الحكم وتداول السلطة فيها، الافتقار الى صنع آلية فض النزاعات في حالة نشوء صراعات بين الأطراف والمركز، ماذا لو لم ترض الأطراف على سياسة المركز؟

لم تكن هناك رؤية ثاقبة ومنهجية واضحة المعالم مما أنهى المرحلة الأولى بانفصال جزء عزيز من الوطن. الكارثة الحقيقية أننا لم نستفد من التجربة لنؤسس لفكرة كيفية معالجة مثل هذه الإشكاليات إذا ما استجدت في مناطق أخرى، وكيف نتعامل إذا ما رفعت الأطراف السلاح في وجه المركز بشكل عسكري منظم .

وجود إشكاليات متعلقة ببنية العلاقات الداخلية بين مكونات مختلفة داخل مجتمع متنوع عرقياً وثقافياً ودينياً  ادت الى بروز القبلية بأبشع أشكالها وتبني الدولة لها كمعيار للتوظيف مما عمق الصراع داخل بنية الدولة السودانية رغم أن الكل يتحدث عن مبدأ المساواة، لكن في الواقع التطبيقي لم ننتج أدبيات مقاومة ومناهضة للعنصرية والقبلية، ولم نُعلِ قيم التسامح والعيش المشترك وقبول المختلف. كل هذه العناصر  ما زالت موجودة عالقة في فضائنا السياسي والاجتماعي.

بروز التيارات الدينية المختلفة أحدث إشكاليات كبيرة وخطيرة في مسألة طرح “الإسلام هو الحل” برؤية بشرية وتصور إنساني وإضفاء القدسية للفكرة باعتبارها تحمل قيم السماء وميزان الحق والناطق باسم الإله، وكل الأفكار الخارجة عن رؤيتها تعتبرها أفكاراً عدائية، مما انعكس ذلك على دولاب الدولة وأنتجت فكرة التمكين وتبني الدولة للغيبيات  بتسيير مواكب الشهداء للحور العين وتقزيم المعاني الإسلامية السامية مثل الكرامة الإنسانية، فعندما تبحث عن مفهوم الكرامة داخل أدبيات التيارات الدينية المختلفة (لقد كرمنا بني آدم) تجد لها معنى بسيطاً لا يتناسب مع حجمها وقامتها داخل النسق القرآني، لأن استدعاءها تم وفق رؤية المفسر لها بحسب الزمان والمكان وإكراه الآخر على اتباعها وأي تصور خارج الفضاء المألوف للأفكار القديمة يعتبر تجريماً وزندقة وكفراً قد يؤدي إلى إهدار الدماء.

من ناحية أخرى، دخول التيارات اللبرالية للفضاء السياسي بأفكار جديدة للمجتمع دون غربلتها واختيار البنود التي تتوافق مع بيئة المجتمع السوداني، مع مراعاة الفوارق بين المجتمات، مع استصحاب الخطاب الخشن والقول غير اللين ووصف كل ما هو قديم بالرجعية والتخلف مما ولد فكرة عدم قبول كل ما هو جديد وخارج نسق التفكير القديم، فأدى الى اغتيال الصالح والطالح منها وتسميم الجو العام ضد كل ما هو جديد، فقاد ذلك الى منع إعمال العقل والتعقل وقتل كل فكرة يخلق معرفة داخل الفضاء السوداني. بروز تيارين متشاكسين يتصادمان ويتقاتلان دون أدنى محاولة للتقارب أو التقاطع (تيار الحداثة والتيار التقليدي)، أوجد اتجاهين في خطين متوازيين مع احتفاظ كل منهما بنفس المسافة.

كذلك بروز علماء السلطان الذين يرتزقون ويفكرون ويعملون من خلال شهوات السلطة ويفصلون الفتاوى حسب مزاج الطغاة ويستخدمون الدين لشرعنة الاستبداد وتمكين الفساد (فقه التحلل) مما أفسد الحكام وأفسد تدين الناس وتمظهر في فكرة تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، مما أدى إلى غياب المشاعرالنبيلة تجاه الدولة وأصبحت ظاهرة الخيانة للأوطان تأخذ صبغة دينية، فأنتجت خللاً في المفهوم الديني وتدهوراً في السلوك اليومي وتردي النسق القيمي الذي ساد في المجتمع، فآل الى العطب الأخلاقي في النشأة والمبادئ التي تشكل السلوك والمفاهيم والأفكار لدى الأفراد والجماعات، تمظهر ذلك في إبعاد المرأة عن ميادين الإنتاج وحرمانها من تولي المناصب القيادية بمباركة الفقهاء.

 

غياب القيم الأخلاقية وإهدار كرامة الإنسان التي تعتبر القاسم المشترك لدى كل الثقافات (عندما يقبل طفل يافع يد رجل دين استمد سلطته الدينية على حساب الأطفال بفرض أتاوات على كل نخلة في الشمال أو إصلاح متر في الأرض بمتر في الجنة كل ذلك يتم بمباركة وقبول من المجتع الذي يرى أن الطفل محظوظ باقتناء فرصة تقبيل اليد المباركة قد تنعكس عليه خيراً ورفاهاً في المستقبل)، إضافة الى الغياب التام لحقوق الإنسان وعدم مراعاة الخصوصيات الثقافية للمجتمات وعدم الموازنة بين العام والخاص وتعزيز قيم الكرامة والعدالة والحرية للإنسان.

وتستمر المحاور، بروز فكرة الجبرية والإكراه بشكل قوي داخل الفضاء الفكري للمجتمع وتحويلها الى خطب منبرية وانتشارها في المجتمع انتشار النار في الهشيم دون معرفة المصادر الرسمية لها. هذه الفكرة أثرت تأثيراً مباشراً على المنظومة الفكرية وحصرت مفهوم التدين لدى الغالبية في المظاهر الشكلية دون المضمون، مما أنتج إشكالية انفكاك الأسباب عن النتائج، أي أن الأسباب ليست لها علاقة بالنتائج وبالتالي يتوهمون أنه يمكن هزيمة أمريكا بجر السبحة بدل الدخول إلى معامل  العلم لإنتاج المعرفة، وهكذا انسحبنا من الحياة ودخلنا ميدان التصوف وشوهنا جل الحوارات بدل ما نناقش الأفكار، سرنا نناقش الأحداث والأشخاص بعيداً عن  مساءلة الفكرة التي تبناها الشخص أحياناً بالتجريح والسب وأحياناً برميه بالكفر والإلحاد.

وليس آخراً، الفشل في إيجاد الحلول الداخلية، فأصبحت كل الحلول مستوردة، لأننا لم نستطع وضعها من منطلق قدراتنا الذاتية لأنها واهنة وضعيفة مما أدى الى تخلف وتردٍّ في جميع المستويات، على المستوى السياسي، يتمظهر في استبداد سياسي وترهل إداري في دولاب الدولة وعلى مستوى العمل يتمظهر في أساليب عمل بدائية لم تعتمد الحداثة، وعلى مستوى القوات النظامية جيش مسيس ومسلوب الإرادة غير قادر على حماية حدود الوطن. استشراء الفساد في كل النواحي قاد الى تخلف اقتصادي كبير، إضافة الى تخلف اجتماعي وزراعي وصناعي.

كل هذه العناصر مجتمعة أدت في النهاية الى اغتيال الدولة السودانية وما زالت نفس  العوامل موجودة حتى الآن وتعمل في بيئتنا. وإلى اليوم لا توجد لدينا الجرأة للغوص في عمق الأزمة ومخاطبة جذور المشكلة، وإزالة الفيروسات العالقة في الفضاء المأزوم بأي شكل من الأشكال.. بما أن هذه الفيروسات موجودة وهي تعمل عملها فينا وتدرس في المدارس وتلقى على خطب المنابر، فلا شك أنها سوف تستمر  تخلق نفس العقلية التي تقود الى إنتاج  القرارات الخاطئة.

كل هذه العناصر مجتمعة أدت في النهاية الى اغتيال الدولة السودانية وما زالت نفس  العوامل موجودة حتى الآن وتعمل في بيئتنا.

د. الهادي عبد الله إدريس أبو صفائر

باحث قانوني, جامعة جلاسقو كلادونيا – المملكة المتحدة

abudafair@hotmail.com

Exit mobile version