منى أبوزيد تكتب : الذين قتلوا محمد عبد السلام..!

 

 “الحُرية شجرة خلد سُقياها قطراتٌ من الدم المسفوك”.. عبد الرحمن الكواكبي..!

 

تمر هذه الأيام ذكرى استشهاد “محمد عبد السلام”، طالب كلية القانون بجامعة الخرطوم – وعضو الجبهة الديمقراطية – الذي تمّ اعتقاله وسحله وتعذيبه ومن ثَمّ قتله، فقط لأنّه شارك زملاءه المُطالبة بتوفير “مَرتبة” لكل طالب مُستحق في السكن الجامعي. اليوم وبعد ثلاثة وعشرين عاماً تنتظر قضيته – التي تمّ فتح التحقيق بشأنها بعد زوال حُكم الإنقاذ – صدور حكمٍ قضائيٍ عادل في حق من قتلوه..!

لأكثر من عقدين من الزمان بقي ما حدث لمحمد جرحاً غائراً في قلوب أهله وأحبائه وزملائه. كلما ضجّت وسائل الإعلام بخبر استشهاد طالب جامعي في أيِّ حدث سياسي ذكرناك وذكَّرنا بجريمة قتلك يا محمد – وفي أكثر أيام الإنقاذ ضيقاً بنزاهة الإعلام – حتى لا تُنسى. يشهد الله أننا لم ننساك، وفي خاطر كل منا عن دُماثة خُلقك وطِيب معشرك ذكرى تخُصُّه.

لست أدري ماذا فعل الله بطلبة الشهادات العربية في “جامعة خرطوم هذا الزمان”، ولكن في أيامنا نحن كان لمجتمع الطلاب بجامعة الخرطوم مزاجه الخاص في تصنيف بعضه للبعض الآخر، وفقاً للبلد الذي جاءت منه شهادته الثانوية. وبناءً على ذلك التصنيف كانت هنالك “مُجتمعات مُصغَّرة” تنشأ، وبين كلٍّ منها فجوةٌ ما..!

فهنالك الشهادة السودانية “مجتمع السواد الأعظم”، وهنالك مجتمع شهادة لندن والمدارس الأجنبية، وهنالك مجتمع الشهادة العربية الذي رُسِمت وتَشكَّلت عنه صورة ذهنية شديدة القسوة والإجحاف، لعلّ بعض الذين سبقونا من المُنتمين إليه كانوا أحد أسباب شيوعها..!

ومن طرائف ذلك الإجحاف أنني عقبت مَرَّةً على حديثٍ لأحد زملائي من طلاب القسم الفرنسي بكلية الآداب بشأن رواية “مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير، فقال لي: وما أدراكِ بروايات فلوبير وأنتِ “شهادة عربية”. ولعله من الطريف أن أذكر أنني كُنت أحَمدُ لمحمد عبد السلام أنه كان يؤنسن نظرته إلينا بعيداً عن تلك التصنيفات، وأكن له شُعوراً بالامتنان. كان مُهذّباً و”كبيراً” في معاملته. كان مثقفاً يافعاً له رؤيته، وكان مشروعاً جيداً لسياسيٍ قادمٍ..!

آخر مرة رأيته فيها كانت عند مدخل كلية القانون، وآخر حوار دار بيننا كان عن رواية كنت أحملها في يدي، ثم انتقلَتْ بعد حوارٍ قصير إلى يديه. طلب أن يقرأها فوعدته أن أعيره إياها بعد انتهائي من قراءتها، وضربت له موعداً باليوم والوقت. “نتلاقى هنا”، “ما تنسِي”، “ما ح أنسَى”. لم أنسَ – طبعاً – يا محمد، لكننا لم نلتَقِ أبداً، لأنك كنت قد انتقلت قبلها إلى دار الحق..!

بعدَها تعاقبت الفصول وتوالت أحداث العُنف، وتم تهديد الطلاب بالاعتقال في حال الحضور إلى الجامعة، لكننا اجتمعنا للدراسة قبيل الامتحانات. يومها تحرّك العساكر – الذين كانوا رابضين داخل الجامعة – وقاموا بضرب الطلاب واعتقالهم، فلاذت الطالبات بمكتبة الكلية، لكنهم أخرجوهن بقوة السلاح..!

ما زلت أذكر كيف اصطف العساكر على جانبي طريق خروجنا من مكتبة الكلية، وكيف كانوا يضربوننا بالسياط. والذي لن أنساه أبداً أن أحد زملائنا المُنتمين إلى الحزب الحاكم كان يقف معهم، ويقوم بتحريضهم على ضرب زميلاته “دُقُّوهِن يَدُق لَحمهن”..!

ذلك الزميل هو أحد المُتّهمين بقتل الشهيد محمد عبد السلام. اللهم أذهب غيظ قلوبنا وأشفِ صدور قومٍ مؤمنين..!

 

 

منى أبوزيد

[email protected]

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى