إبراهيم أحمد الحسن يكتب..إلى (الجزمة).. مع التحية (2)

حَاجّة كافرة، أو تموت تخلّي، كان موضة في سبعينيات القرن الماضي، ينتعله الشباب بأشكاله المختلفة وتصميماته البسيطة على أيدي عُمال مهرة، يصنعونه من أنابيب وإطارات السيارات القديمة، وتترك أثراً على الأرض كما تفعل لساتك السيارات، وانت وحظّك قد تنتعل لستك تراكتور وتتهادى بين الزرع، أو تتوقّف فجأةً وأنت تسير في بلاط أملس وتحدث صريراً تنطلق منه روائح الكاوتش، لأن تاريخ (التموت تخلّي) الذي تنتعله، جاء من سيارة تفحيط رياضية.

وحذاء (الشِّدَّة) البلاستيكي الخفيف الذي كان شائعاً في السودان ويُسهل به الحركة في الصحاري والجبال، له جذرٌ ضاربٌ في الثقافة الإريترية. ربما لأنه كان لصيقاً بالثوار، حتى أنهم صنعوا لـ(الشِّدَّة) تمثالاً في أسمرا لتذكيرهم بأيام النضال. و(الشِّدَّة) نفسها، يسميها المغاربة: “حلّومة”.

و(الشقيانة)، كانت هي الأخرى ذائعة الصيت عند البدو، يقطعون بها وهاد السودان وجباله، دع عنك (المراكيب) التي (صُنعت خِصِّيصاً للسُّودان)، رغم أنف حملة العبارة الشهيرة التي كان يختم بها البروفيسور محمد عبد الله الريّح مقالاته المنوّعة: “دلّل على وعيك البيئي، فلا تستعمل أو تهدى أي شئ مصنوع من جلد النمر أو الأصَلَة أو التمساح، لأن الحياة لنا ولسوانا”.

ومن ألطف ما عُلِّق في ذاكرتي عن الأحذية الضيِّقة، حذاء عادل إمام الذي ضاق عليه في (شاهد ما شافش حاجة)، وجعله (يعيّط) أثناء حضوره عرضاً سينمائياً. وعندما نصحه عمر الحريري أن يصطحب معه (واحدة) عند ذهابه للسينما مرّةً أخرى، كان رد عادل إمام المُوغل في البراءة: (يعني جزمة تانية)؟

وحين غزت جيوش (الكعب العالي) السودان، أصابت الكثيرات في مقتل وهاجت من مشيهنّ الغضاريف، فيما نجحت أُخريات في احتراف انتعالها وصارت الواحدة منهنّ “تمشي قدم قدم في المشية ريلة”.

ولأنّ سيرة الأحذية، أكبر من أن تُحيطها مقالة واحدة، سأتوقّف عند (هواية) الممثل المصري حسين فهمي، فقد علّق بذاكرتي ما قرأته قديماً من حوار معه، عن أن هوايته الأثيرة هي (تلميع الجزم) منذ صغره، وإنه ينفق الكثير من الوقت وهو يلمِّع أحذية أولاده، وإن أول هدية من ولده، كانت عبارة عن دهان للحذاء (ورنيش).

ولأن المقام مقام (تلميع) للجزمة، سأختم بسيرة أصغر وأجمل وألطف بنات أخواتي – وكلّهن لطيفات وجميلات – ونسمّيها (الجزمة)!

ما كان يرمش لنا جفنٌ ونحن نناديها (الجزمة)، وهي سعيدةٌ بلقبها غير المسبوق، منذ مهرجانات أيّام الجُمعة العائلية في البيت الكبير، واجتماع الأسرة المُمتدة فيه، وجمال اللّقيا بمسافر عاد من غربةٍ وشوق، أو وداع طالبٍ “حقايب سفرو تُقال.. من جنس كتاب ومجلة”.

كانت بنت أختي تلهو وتمرح بيننا في الحوش الكبير، وتستجيب في براءة لمن يُناديها بـ(الجزمة). هي سَعيدةٌ به، ونحن لا نمل مُناداتها بها، حتّى شبّت عن الطوق بلقب جزمتها البديعة، ولكن..

إنها (الكزمة) سيدي القاريء، وليست (الجزمة)!

الصبيّة وهي زهرة تتفتّح، كانت تلهو وتلعب وتنشد: “لمّن كنت صغيْرة/ بلعب بالتراب/ ماما لبّستني (الكزمة) والشراب”.

تنطقها (الكزمة)، لأنّها كانت في طفولتها لثغاء، من (ألثغ)، وهو من يتحوّل لسانه من حرفٍ إلى حرف آخر، كجعل السّين ثاءً والرّاءُ غيناً والجيم كافاً كما في حالة ابنة أختي الحبيبة التي خرجت من محاولات ترديدها النشيد العصّي على لسانها بلقب (الكزمة)!

التصق بها لقب (الكزمة) مثل ظلها، وردّده الأهل والجيران وأصدقاء الأسرة، وما عرفوا أنّ أصله: (جزمة)، ومنبعه نشيد رياض الأطفال الأزلي.

التحية لـ(الكزمة)، وهي تُواظب على إحياء سُنّة (اللمّة الكبيرة) في الحوش الكبير بعروس الرمال أيام الجمعة. وتطلق أطفالها من الزهرات والفرسان الذين يملأون البيت حُبُوراً ويأنسون (رمال حِلّتنا)، وربما جلست الكزمة القرفصاء تنشد مع واحد من فرسانها الصغار وهو يلعب بالتراب: “ماما لبّستني (الكزمة) والشراب”.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى