سراج الدين مصطفى يكتب..  تأملات في بعض التجربة

كان للغناء دور كبير وأثر متعاظم في توحيد وجدان السودانيين ولهفتهم للتحرر من قيد المستعمر والسعي للاستقلال، ولم يقف الفنانون بمعزل عن الواقع.. فكان دورهم الواضح من خلال الأغنيات والأشعار التي تناهض الاستعمار.. ويظل العملاق محمد وردي واحداً من الذين أرسوا دعائم الاستقلال من خلال أغنياته وهو صاحب دور عظيم ومتعاظم في كل التواريخ التي أعقبت الاستقلال.

محمد عثمان وردي المولود في قرية صواردة، بمنطقة السكوت بشمال السودان، وعمل معلمًا بمدارسها ومنها جزيرة نلوتي، حيث يقال إنه تعلم الطنبور فيها من ريحان بن ريحان. وتعتبر مناطق دنقلا والسكوت والمحس ووادي حلفا مناطق نوبية يتحدث أهلها اللغة النوبية التي دخل فيها الكثير من الكلمات المستقاة من ثقافات مختلفة مرت بالمنطقة منها الثقافة العربية الإسلامية. وتشتهر مناطق النوبة بآثارها التاريخية الممتدة عبر آلاف السنين، ومن قبل ميلاد المسيح عليه السلام. وفي العهود القريبة كانت في صواردة آخر حامية للدولة المهدية في الشمال رغم وصول جيش القائد عبد الرحمن النجومي حتى توشكي في جنوب مصر. وكانت معركة فركة -الواقعة شمال صواردة- هي التي شهدت أولى معارك المهدية في مواجهة الاستعمار البريطاني بقيادة كتشنر في عام 1898م.

وتعتبر منطقة السكوت أيضاً هي مسقط رأس الشاعر الفنان خليل فرح الذي ولد في جزيرة صاي وعاش في أمدرمان وغنى للحرية وللانعتاق والسودان يرزح تحت نير الاستعمار، عاشقاً لوطنه قائلاً:

عازة في هواك عازة نحن الجبال

والبخوض صفاك عازة نحن النبال

عازة ما سليت عازة نحن الجمال

كما غنى من بعده الشاعر جيلي عبد الرحمن لعبري منشدًا:

أحن إليك يا عبري حنيناً ماج في صدري

وأذكر عهدك البسام عهد الظل في عمري

وقد تشبع الفنان وردي بروح خليل فرح وجيلي، ولا غرو فإن أجداد الفنان محمد وردي يقال إنهم كانوا حكام المنطقة من جزيرة صاي، وفر جده حسن وردي من جزيرة صاي عقب اختلافه مع حملة التركية الأولى واستقر أخيرا في صواردة.

ولعل روح محمد وردي المتوثبة إلى التحرر من الاستعمار وتبعاته كانت تعبيرًا عن تلك الروح النوبية التي كانت ترفض الاستعمار الإنجليزي وتتهكم منه وتسعى إلى بناء سودان جديد مستقل ومتحرر من كافة أشكال الاستعمار.

أسهمت الأناشيد التي تغنى بها الفنان وردي إسهامًا مباشراً في بناء روح التحرر والانتماء إلى الوطن في شباب السودان منذ الاستقلال على مر العهود المختلفة التي مر بها السودان، وبذلك أسهم في تشكيل جانب كبير من سيكلوجية الأجيال الناشئة على امتداد القطر السوداني.

ولعل الشعور العميق للشباب النوبي خصوصًا وغيرهم من أبناء الوطن بالانتماء إلى السودان الحديث، وتفانيهم من أجل وحدته يعود فيما يعود إلى ما بث فيهم هذا الفنان المبدع من حب الوطن.

وبرغم نوبيته فإن الفنان وردي قد غنى للاستقلال ومكافحة الاستعمار وغنى للتقدم والثورة باللغة العربية. وأصبح شباب السودان في شماله وجنوبه وباختلاف مشاربهم وقبائلهم وأحزابهم يتغنون بتلك الأناشيد العربية وكثيرًا ما كان بعضهم لا يفهم ما يتغنى به (وكنا نحن النوبة في طفولتنا من بينهم)؛ ولكن كان يكفيهم أن يفهموا أنهم يتغنون بالعربية كلغة قومية، ويغنون للسودان، ويعتزون باللغة العربية وبانتمائهم للسودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى