عبد الشكور حسن أحمد يكتب.. رحمة الازدحام.. (من دفتر ضابط مرور)

في ذات صيف  شديد الزحام كثير الغبار،

بشارع الموردة بأمدرمان، أدرج الشرطي أوراق العربة الصالون ضمن المخالفات المرورية لإجراء تسوية فورية لتلك العربة …

نزل السائق منها  وخاطب الشرطي طالبًا مقابلة الضابط!

سمح له الشرطي بذلك

بعد التحية والمجاملة

قال لي: (في العربة الأستاذ محيي الدين فارس)….

صافحت الأستاذ وهو جالس  على  المقعد الخلفي للعربة الصالون ….

وقفت أمام شاعر السودان ومربي الأجيال وعملاق الأدب العربي الذي  ضعضعه المرض اللعين……

قلت في نفسي: (ما بالك يا شاعر الصحراء يلفك الصمت المهيب الحزين…؟

ما بالك يا شاعر الأدغال تنتابك الهواجس والظنون..؟  ما خطبك يا شاعر  النيل يسكنك الصمت الرهيب..؟

ما خطبك يا ملك القوافي تساورك  الآلام والأحزان..؟

ما بالك يا أمير القصيد تهجرك  الأشجان والألحان….؟

رأيت الأستاذ مبتور القدمين متورم اليدين لكنه ما حاد عن الطريق…

رأيت الأستاذ يقاوم المرض اللعين بقوة. وهناك من يدعي “الشعر والأدبا” وملك الشعر صامت لا يقوى على القصيد…!

أمير القوافي صامت وفي صمته عِبر ودروس ومعانٍ…!

دارت بخاطري أبيات من قصيدة  عباس العقاد (العقاب الهرم)

يهم ويعييه النهوض فيجثم

ويعزم إلا ريشه ليس يعزم

لقد رنق الصرصور هو على الثرى

مكب وقد صاح القطا وهو أبكم

لعينيك يا شيخ الطيور مهابة يفر بغاث الطير عنها ويهزم

ما عجزت عنك الغداة وإنما

لكل شباب هيبة حين يهرم….

……… . ……   ……

تحركت الدورية لفتح الطريق لعربة الأستاذ

جلست بجواره

وشريط الذكريات بالمدرسة الثانوية وقصيدته الرائعة الخالدة التي أدهشت العالم العربي ( ليل ولاجئة)

لا.. لا تنامي

الليل أوغل لا تنامي

الريح أطفأت السراج وقهقهت خلف الخيام

وفراخك الزغب الصغار.. تراعشت مثل الحمام

وتكومت فوق الحصير.. تكومت مثل الحطام

ناموا على جوع.. فما عرفوا هنا طعم ابتسام

وعلى خدودهمو .. بقايا * أدمع.. ورؤى قتام……

……………….

كما مرت بذاكرتي  أغنياته  الوطنية.. ومعروف أن محيي الدين فارس مولود بقرية أرقو بالشمالية في العام 1936  وكان أصغر فتى يقاوم الاستعمار، إذ كان لم يبلغ  العشرين ربيعًا …….

………….

أنا لستُ رعديداً يُكبل خطوه ثِقل الحديد

وهناك أسراب الضحايا الكادحون

العائدون مع الظلام من المصانع والحقول

ملؤوا الطريق

وعيونهم مجروحة الأغوار ذابلة البريق

يتهامسون

وسياط جلاد تسوق خطاهمو

ما تصنعون؟

يجلجل الصوت الرهيب

كأنه القدر اللعين…….

……………

محيي الدين فارس أشادت به كل الجامعات العربية والعالمية،  في كل المحافل الأدبية  ….

عند وصولنا  كسر  الأستاذ صمت السكون ونعى نفسه  فكان رثاءً صريحًا  لنفسه ونعياً حزينًا لحياته.

………….

أغرى الحوادثَ بي أنِّي أصانعها

وأنني لنعيم الصبر مَن حصدا

قد مزَّق الدهر منّي كل آونةٍ

شيئًا فلم يبق إلا الروحَ لا الجسدا

لم يبقَ منيِّ سِوى بعضٍ فيا كفني

ماذا ستحمل مني إن رحلتُ غدا.

………………

مضينا وفي الدواخل ألف سؤال عن فارس الكلم وملك القصيد وأمير الحروف محيي الدين فارس…

توفي بعدها بسنوات  في العام 2008 تاركًا خلفه  دواوين من الشعر الفصيح …. (الطين والأظافر) (صهيل النهر) (القنديل المكسور) (قصائد من الخمسينات)

رحم الله المبدع المربي الشاعر الأستاذ  محيي الدين فارس..

أناشد أهل الثقافة والفنون وأهل أمدرمان بتخليد اسمه والاحتفال والاحتفاء به.

(من دفتر ضابط مرور)

والله المستعان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى