Site icon صحيفة الصيحة

عبد الحفيظ مريود يكتب : حمدوك في القاهرة

كان محمّد سرّ الختم، نجل محمّد عثمان الميرغني، يقودُ وفدَ مفاوضاتٍ لصالح الخديوي مع دولة المهديّة. الخليفةُ عبد الله التعايشي كان قد أرسلَ وفداً من المفاوضين إلى القاهرة. في أسوان، طلب منهم الضابط الإنجليزي تغيير ملابسهم المُرقّعة تلك، ولبس ملابس جديدة تليق بمقابلة الساسة في القاهرة. لكنّ الوفد الأنصاريّ رفض أنْ يغيّر ملابسه، مما جعل الضابط الإنجليزي يسمحُ لهم بالمغادرة بهيئتهم تلك. وهناك طلبوا منهم ذات الشئ قبل مُقابلة المسؤولين والخديوي، وكان موقفهم ثابتاً. فالملابس المرقّعة هويّة وعنوان بالنّسبة لهم. رفضوا تسليم رسالة الخليفة وبعض منشورات المهدي والرّاتب، إلى محمّد سرّ الختم. فقد كانت أوامرُهم واضحةً بتسليمها إلى الخديوي. لكنَّ محمّد سرّ الختم، بوصفه متحدّثاً ومفاوضاً باسم ونيابةً عن الخديوي عرض شروطاً للصّلح والعيش في سلام بين الدّولتين. كان واحداً من شروط الخديوي أنْ تكون الحدود الفاصلة خور موسى باشا، جنوب وادي حلفا. الوفد قابل الخديوي بملابسه المرقّعة، تلك. لم يستجب للشّروط الحديثة في مقابلة رئيس الدّولة والمسؤولين. كما رفض أنْ يجعل حدود السُّودان جنوب وادي حلفا.

فيما بعد، وربّما بنصف قرنٍ من الزّمان، حين أرسلتْ مصر وفداً إلى الإمام عبد الرّحمن المهدي، تستسفرُ عن لماذا يفاوضُ الإنجليز على مستقبل السُّودان، ولا يتفاوض مع مصر، ردَّ الإمام عبد الرّحمن ردّه الصّادم، والممتلئ عزّةً وأنفةً. جرجر المصريّون خيبتهم وغادروا مجلس الإمام. كانَ ذلك قبلَ أنْ يقومَ عبد الله بك خليل، رئيس الوزراء بغضبته المضريّة في مسألة حلايب، وأوامره المشدّدة لقائد الجيش السُّوداني بإمهال الجيش المصري ساعاتٍ للانسحاب، وإلّا فلنْ تسعنا الأرض جميعاً. مما اضطرّ الجيش المصريّ للانسحاب، تماماً، وعلى وجه السُّرعة. الشئ الذي جعلَ عبد النّاصر غاضباً، والعلاقات فاترةً حتّى عادَ إبراهيم عبّود لكسر جمودها، وتفعيلها.

بعدَ ذلك، بأكثرَ من ربع قرن، جاءتِ حكومةُ الإنقاذ وكان من ضمن ما فعلتْ أنْ أرجعتِ البعثة التعليميّة المصريّة، و”سودنتْ” جامعةَ القاهرة فرع الخرطوم. الوضع الذي ما زالَ مستمرّاً حتّى يومنا هذا. وحين ارتكب بعضُ قادتها حماقة محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا، ووجدتْ مصر سبباً لاحتلال حلايب، المثلّث، تكبّدتْ خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد. كتب د. أمين حسن عمر مقالاً نادراً عن قائد شرطة حلايب، الضّابط النوباوي الذي استشهدَ هناك، هو وعساكره جميعاً، مقابلَ أنْ يسلموا مخفرهم للمصريين، ولم يذكرهم أحدٌ، ولا يعرفهم أحدٌ حتّى الآن.

في حواره مع قناة الجزيرة، حاول مقدّم برنامج شاهد على العصر، أحمد منصور في الحلقات الأولى أنْ ينتصر لمصريّته، وضعَ حسن التّرابي نقاطاً مهمّةً في علاقات السُّودان ومصر على مرّ العصور. ساخراً من فكرة أنّهما كانا قطراً واحداً، تحت تاجٍ ملكي واحد. دعْ عنك فكرة أنْ تكون مصر مستعمِرةً، أو حاكمةً للسّودان في تأريخه القريب. بل كانا قطريْنِ محكومين بمحمّد علي باشا الألبانيّ، نيابةً عن سلطان الإمبراطوريّة العثمانيّة. فأيُّ نظرةٍ دونية كانتْ سائدةً وسط السياسيين السُّودانيين تجاه مصر، من لدنْ محمّد أحمد المهديّ؟ قد يكونُ هناك افتتانٌ ثقافيٌّ، شعبيٌّ وسط النّخبة المثقّفة، أو وسط المجتمعات التي تباشر احتكاكاً مع المجتمع المصريّ، لكنَّ الخطاب السياسي كان دائماً ينحاز إلى سيادة السُّودان ونبرة الندّيّة العالية. باستثناء الختميّة وخطاب الاتّحاديين. الذين يمكنُ أنْ يفاوضوا على حدودنا جنوب وادي حلفا، كما فعل محمّد سرّ الختم، أو أنْ يرافقوا كتشنر على باخرته لحصاد الأنصار في المعارك، و”استرداد السُّودان” لصالح التّاج المصريّ أو البريطانيّ، أو أيّ تاج، لا فرق.

ما أردتُه هو أنْ ألمّح إلى أنَّ الانبساطة بمحاضرة حمدوك، رئيس الوزراء في مركز الأهرام للدّراسات السياسيّة والاستراتيجيّة، والتي أشار فيها إلى المسكوتات الثلاثة في علاقات السُّودان ومصر، ليس جديداً، تماماً. وإنّما هو امتداد لخطابات قديمة للسياسيين السُّودانيين، يمكن الاستزادة منها في مظانها، معرفةً للأجيال الجديدة، حتّى تتمكّن من معارفها التأريخيّة.

 

Exit mobile version