د. عثمان البدري يكتب: مؤتمر باريس للاستثمار الموعود ولمصلحة من! (١)*

هنالك دعوة لمؤتمر بباريس العاصمة الفرنسية خلال شهر يناير 2021 تتنادى له بعض الدول والمؤسسات وخاصة بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع القيود على بعض صادرات التقانات من الولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من بعض التحسس من ما ورد في القانون المعروف بألـ”جاستا” JASTA إلا أن مجمل الجو أيجابى. و معروف أن كل حكومة راشدة تسعى لتعظيم الأصول المستخدمة والمتاحة والممكنة ولكن العبرة بالنتائج المخططة والمرجوة ولمصلحة من بطريقة عادلة.

وكما هو معروف، فإن الاستثمار الحقيقي المستدام،  هو تعظيم الأصل وتطويره وزيادة العائد منه. وهذا على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول أمر معروف. وعلى مستوى الأنظمة تدار تلكم الموارد للمنفعة العامة التي يأتي في سياقها منفعة الأفراد وبطريقة مستدامة قابلة للتطوير والتحديث وقياس النتائج والمتابعة. لما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ثم أهبطه إلى الأرض لعمارتها والاستخلاف فيها لا لإفسادها والبغي والطغيان فيها. فقد وضع الله سبحانه كما ورد في الآية العاشرة من سورة الرحمن “والأرض وضعها للأنام” أي الخلق جميعًا. وحذر سبحانه في الأية السابعة من سورة الحشر  “مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”. لأن الاحتكار يؤدى إلى فساد كبير في الموارد وبين الناس.

وقد فطنت كل الأنظمة لضرر هذا المنهج.. وهو منهي عنه في الإسلام ومحارب في الاشتراكية وفي الليبرالية الاجتماعية الراشدة.

والموارد المتاحة الآن وسابقاً ولاحقاً في السودان للأجيال الحاضرة والآتية مستقبلاً، لا بد أن يتم التصرف فيها بالنصفة والعدل بين الناس جميعاً وألا تطغى فئة على فئة ولا جيل على جيل. و لنا فيما رُوي عن الخليفة الراشد  أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حكم فيما يخص طلب بعض الصحابة رضوان الله عليهم لاقتسام أرض السواد من العراق بعد فتحها فقد رفض ذلك وأجرهم على بعضها بخراح يخرج منها، وقال قولته المشهورة التي لم تصر مثلاً بل حكماً واجب الاتباع بنص الحديث النبوي الشريف “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي” فقد قال لهم “وماذا أترك لذراري المسلمين من بعدكم”، و لم يُعلم له مخالف من الصحابة.

وفي زمن حكم خليفة المهدي، ولما وجد أن هنالك استحواذاً للموارد والأراضي يؤدي إلى حرمان العامة قال قولة مشهورة (كل راجل قدر حشاشة وزريبة وصريفة) والحشاشة بمعنى ما يستطيع زراعته والزريبة ما يحفظ فيها مواشيه وحيواناته والصريف هو سور المنزل). وأما فى أزمنة الملك العضوض فقد اعتبر الحكام والملوك والقياصرة والبابوات والمتغلبون شرقاً وغرباً وشمالا وجنوباً أن موارد البلاد حكر وملك خاص لهم يتصرفون فيها منحًا منعاً وأخذاً وعطاء دون عدل وإنصاف، فأصبحت الموارد دُولة بين الأغنياء مواطنين وأجانب تحت مختلف الحجج الباطلة بحجة الاستثمار. وإذا نظرنا لمجمل موارد العباد والبلاد المتاحة الآن المستغلة وغيرها، نجدها كثيرة فائضة لم يستغل أكثرها. فموارد البلاد التي للعباد تشمل الأراضي الفائضة والمحتكرة بلا استثمار عادل من جانب الأفراد والمجتمعات وهنالك ما يلي الدولة من موارد هامة واستراتيجية تتقاتل عليها الدول والشركات لاستحواذها مثل سواحل البحر الأحمر التي تزيد على السبعمائة كيلومتر، وما يمكن أن يكون فيها وعليها من الموانئ والمرافئ والمطارات وثروات باطن البحر وحولها من كنوز. فهل استخرجنا كل أو جل  تلك القيم والموارد لمصلحة الجميع وهي موارد غنية واستراتيجية يتهافت عليها الناس والدول، فلا بد أن تعمل الدولة فيها بالجد والتأني والاستماع لكافة وجهات النظر المختلفة المبنية على الدراسات الجادة وليس لرأي واحد وبكل الحزم والشفافية الكاملة وبالإفضاء الكامل المعلن من قبل من يقومون على أمر التفاوض والقرار وتوضيح ما هو العائد العادل لأصحاب الأصل.. مواطنو السودان… والعائد العادل للمستثمر، وفي الزمن المعقول لاسترداد تكلفة استثماره ونسبة العائد على ذلك حتى لا يكون الأمر “هبة” لأصول العباد والبلاد ممن لا يملك لمن لا يستحق. وقدمت عدة شركات لإعطائها جزءاً من الميناء لتطويره وإدارته وقدموا عرضاً في البداية بدفع مبلغ حوالي سبعة وعشرين مليون دولار مقدماً وكنت أرى أن المدفوع مقدماً يجب ألا يقل عن مليار وأربعمائة مليون دولار زائداً نسبة خمسة وعشرين بالمائة من العائدات السنوية وأن تكون الشراكة متناقصة لمصلحة الهيئة العامة للموانئ بعد فترة. وعلمت لاحقًا من الجهات المعنية تماماً أنهم تقدموا بعرض أكثر من خمسمائة مليون دولار مقدمًا ونصحت بالتمسك بما اقترحته وربما زيادته مع اشتراطات أخرى.

تاريخياً وإلى وقت قريب كانت هيئة الموانئ البحرية والطيران المدنى وشركة السكر السودانية أكبر مساهمين في الموازنة العامة، والأوليان مؤسسات خدمية والثالثة إنتاحية سلعية. فأين هي الآن من ذلك؟ وما هو دور المؤسسات الإنتاجية والخدمية الأخرى مثل الاتصالات وسودانير، وقد وصلت مبيعاتها السنوية في سنين سابقة إلى ما يزيد على المائتي مليون دولار أمريكي وغيرها من المؤسسات الاستراتيجية العامة. وكيف نسير في عقود الاستثمار المختلفة ومِنحه وما هو العائد على العباد والبلاد وهل هو على النصفة والعدل أم الاستغلال والضياع، وهل هنالك ما يبرر منح البعض الموارد لقرن أو ثلاثين عاماً أو نحو ذلك. وإذا أنشأت الدولة الخزانات فلم لا تشق القنوات منها أو من المواطنين ثم تسترجعها بتكلفة عادلة.

فهل سيتمخض مؤتمر باريس فيلد شيئاً نافعاً، وهل الدول الغربية أقرب للاستثمار المتوازن، أما الدول الأخرى العربية مثل السعودية والإمارات وقطر، والآسيوية مثل تركيا والصين. وكل اتفاق حول استثمار خاص أو عام أو دولي يجب أن تعرض مراميه وشروطه على الكافة أصحاب المصلحة الحقيقية في الموارد وأن تكون مصلحتهم والبلد راجحة ويعطى المستثمر العائد العادل.

فالمستثمر ليس متبرعاً بل هو تاجر يبحث عن الربح وإن كان دولة تبحث عن أكثر وربما أخطر من ذلك.

ونواصل بعرض بعض تلك الاستثمارات والمفارقات حفظاً وإضاعة.. في القطاعات الزراعية والخدمية والمصرفية والمالية والمفارقات الكارثية داخل بعضها وبين العائد منها والفاقد، إن شاء الله.

* مدرس تحليل السياسات العامة جامعة الخرطوم

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى