عزيز التوم.. شاعر ليل الشجن!!

بورتريه

سلسلة شعراء الأغنية الواحدة

عزيز التوم.. شاعر ليل الشجن!!

وثق له: سراج الدين مصطفى

(1)

التسامح الإنساني الرفيع لا  يعلي اللون أو الجنسية والمعنى السائد للتسامح الديني يقوم على مبدأ قبول الآخر باختلافه وتباينه، ولكن التسامح الديني في معناه العميق اليوم يرتكز إلى مبدأ فلسفي وديني بحسب بعض التعريفات العلمية وقيمة التسامح تلك جعلت من الشعب السوداني مزيجاً من السحنات والطوائف تتعايش فيما بينها بكل حب، وأنتج ذلك المزيج المدهش ما يعرف (بالهوية السودانية الخاصة)، وذلك ساهم في تشكيل الوجدان السوداني بالعديد من المشارب والطرائق المختلفة، ويظل الشاعر (عزيز التوم منصور) الذي ينتمي لطائفة الأقباط نموذجاً للمبدع السوداني الأصيل الذي مازج ما بين كل الثقافات واستنبط منها روحاً جديدة ساهمت في التكوين الاجتماعي للسودان.

الشاعر عزيز التوم منصور شاعر أغنية ليل الشجن ولد بمدينة أم درمان عام 1920م وتخرج في كلية غردون، حيث درس الأدب العربي في عام 1941م، وعمل موظفاً في السلك الكتابي بالأبيض والخرطوم وجنوب السودان، والتقى في مدارج تنقله الوظيفي بالأديب الكبير عمر الحاج موسى وزير الثقافة إبان العهد المايوي.

(2)

ونسبة لتقارب الاهتمامات في الثقافة والأدب، رافق الشاعر عزيز التوم الوزير عمر الحاج موسى  مديراً لمكتبه في الجنوب وفي الخرطوم إبان تقلده وزارة الإعلام والثقافة،  مما حدا بالوزير بعد ذلك  لتعيينه مديراً لمصلحة الثقافة بالوزارة في عام 1975م، وبما أن عزيز التوم ينتمي إثنياً لطائفة الأقباط، تقول بعض الروايات إنه تلقى تعليمه الابتدائي وحفظ القرآن الكريم في خلاوى مدينة الأبيض، ثم التحق بكلية غردون التذكارية، ولكن الأستاذ الشاعر كامل عبد الماجد يقول في ذلك (القارئ لشعر عزيز التوم يلحظ الأثر الإسلامي الذي يتناثر هنا وهناك في معظم قصائده، وهذا طبيعي لمن شب وترعرع ودرس وسط المسلمين ويزعم عبد الحميد محمد أحمد- الذي نشر دراسة عن الشاعر باسم (الشاعر السوداني عزيز التوم)- أن الشاعر تلقى تعليمه الابتدائي وحفظ القرآن الكريم في خلاوى مدينة الأبيض، ولكنني أتحفظ في قبول مثل هذا القول، ففي الأبيض مثل كل مدن السودان الكبيرة مدارس خاصة بالمسيحيين، ولم يشر يوسف مخائيل إلى دخوله أو إخوانه الخلاوى بالأبيض، بل تحدث عن المدارس المسيحية.

(3)

الأب فليو ثاوث فرج واحد من الذين عاصروا الشاعر عزيز التوم وحكى عنه قائلاً (لقد رأيت الشاعر المبدع عزيز التوم منصور.. رأيته وجالسته في منزله وكتب عني أبياتًا جميلة غابت عني عندما انتقلت من سكني إلى سكن آخر وكان الرجل يمتلئ بالحيوية ويفيض بالمحبة شاعرًا أنيق العبارات شجي الكلمات شعره موسيقى رائعة. قسمات وجهه تتحرك مع نبض شعره كنت أزوره في منزله وهو من رعايا كنيسة الشهيدين، وكنت أجلس إليه وأحيي تواضعه، وكدت أقول له هل هجرت الشعر حتى تغني بالسخافات المغنى ولم تغن سوى قصيدة إيليا أبو ماضي:

وقائلة هجرت الشعر حتى

تغنى بالسخافات المغنى

أتى زمن الربيع وأنت لاه

وقد ولى ولم تهتف بلحن

ونفسك كالصدى في قاع بئر

ومثل الفجر ملتحفاً بدجن

فما لك ليس يستويك حسن

وأنت المرء تعشق كل حسن

(4)

ويضيف فيلو ثاوث فرج (إن للشاعر عزيز التوم منصور ملاحم مستقلة منها كرري والزين والشك ويحمل وسام الدولة الذهبي للآداب والفنون، وحاز جائزة الدولة التكريمية للآداب والفنون، وكان يعمل مسجلاً للمصنفات الفنية والأدبية والعلمية بمصلحة الثقافة تحت قانون حماية حق المؤلف .. وعاصر الحركة السياسية قبيل الاستقلال وشارك بالكلمة في تحريك الجماهير وحضها على الثورة ضد الاستعمار.

(5)

بعد انقضاء الفترة المايوية يمم الشاعر عزيز شطره صوب الإمارات وظل يعمل هناك حتى غيبته المنية عام 1992م، وقد اطلعت على عدد من قصائد عزيز التوم في زمان بعيد عبر الصحف السودانية، ولعل أكثر ما يدهش في شعر عزيز التوم هو تسامحه وتعايشه الديني واعتزازه الراسخ بدين الإسلام، رغم اعتناقه المسيحية، فهو من طائفة الأقباط السودانيين مولداً ونشأة، وهي الطائفة التي شب أبناؤها مع المسلمين فانصهرت وتآلفت معهم في وداد وإخاء، وقال الأستاذ كامل عبد الماجد (أكثر ظني أن الشاعر عزيز التوم وقد كان ولعاً بنظم شعر الإخوانيات قد جرب كتابة شعر الغناء، وهو عندي أكثر صعوبة من النظم بالعمودي أو التفعيلة، وكثيرون من ناشئة الشعراء يظنون أن الأمر سهل، فتأتي محاولاتهم خالية من التفرد والإبداع، وهذا بالطبع لا ينطبق على عزيز التوم في القصائد الغنائية التي كتبها وهي قليلة، وأعتقد أن من بينها أغنية (ليل الشجن) التي تغنيها البلابل.

(6)

حينما تأتي سيرة أغنية (ليل الشجن)، يطل الدكتور أنس العاقب والبلابل، وهذا العمل الغنائي المختلف شكلاً ومضموناً وهو سابق لزمانه من حيث التركيبة اللحنية للأغنية التي برع فيها الدكتور أنس العاقب، ويتمظهر جمالها سافراً بصوت البلابل وهن يرددن:

فى ليل الشجن والشوق… سألت عليك وناديتك

لقيتك فى السماء نجمة… لقيتك فى الصفاء نسمة

لقيتك فى الصباء كلمة… وناجيتك وما رديت

ــــ

شكيت لي طيفك الأيام… وحدثتك حديث الروح

سألتك وين.. وين وكيف.. هواك أوهام .. ووعدك زيف

وطول أيامى بلقاك طيف … وناجيتك وما رديت

ــــ

سهرت مع ملاحم شوق … وفي أحضاني نام الليل .. صحيتو

صحيت نجمة ترعى حبيب

وصحيت شمعة تشقى لهيب

تمنيت وانت طيف ما تغيب

وناجيتك وانت ما رديت..

(7)

الدكتور الموسيقار أنس العاقب استدعى تلك الأيام قائلاً (من المؤكد أن الشاعر عزيز التوم واحد من النماذج الشعرية الباذخة ذات القيمة العالية، التقيته حينما كان مديراً لمكتب وزير الثقافة والإعلام المرحوم عمر الحاج موسى، نشأت بيننا علاقة حميمة وحبيبة، فهو كان يحب طريقتي في الغناء والتلحين ويرى بأنني متجاوز في أفكاري الغنائية والموسيقية، والرجل للتاريخ ساهم في تأسيس قسم الموسيقى بالمعهد، حينما كان محصوراً على دراسة الدراما فقط، وهو كان يرى بأنني أيضاً أصلح بأن أكون ممثلاً، وقد حدث ذلك بالفعل، حينما أديت دور المادح في مسرحية الخضر، ولكن التعاون الإبداعي الأول لم يكن في أغنية ليل الشجن، بل كان عبر نشيد لثورة مايو اسمه (قسم الوطن) قمت بتلحينه وتغنى به كورال معهد الموسيقى والدراما وكان ذلك في العام 1974 في مسابقة أقامتها وزارة الثقافة احتفاء بالعيد الخامس لثورة مايو.

(8)

ويضيف الدكتور أنس العاقب (بعد تلحيني نشيد (قسم الوطن) تعمقت العلاقة ما بيننا، وذلك ما جعله يأتيني ذات اليوم وهو يحمل مطلعاً لقصيدة قال بأنها بداية لعمل ملحمي كبير يعبر عن الثورة وفيه بعض الأمنيات، وكان ذلك المطلع هو قصيدة (ليل الشجن)، ولكني خالفته الرأي حيث كنت أرى هذا المطلع هو قصيدة مكتملة الأركان لما يحتشد به من حس صوفي وحشد هائل من العاطفة الدفاقة، لذلك قمت بتلحيته بروح صوفية، وبعد تلحين الأغنية كنت أرددها في الجلسات الخاصة وفي كل مرة أقوم بتعديل لحنها..

(9)

كان ذلك في العام 1976حينما لحنت قصيدة ليل الشجن ووقتها توطدت علاقتي بهن وتغنين لي ببعض الأغاني مثل (عمر الهنا) و(أسالمك في عيون الناس) والكثير من الأغاني التي لم تخرج للناس، ولكن ليل الشجن وجدت حظها من التداول والانتشار عكس باقي الأغاني.

(10)

وهكذا أصبحت أغنية ليل الشجن واحدة من وجدانيات الشعب السوداني، كما ظلت هي يتيمة الشاعر عزيز التوم منصور والذي بعد انقضاء الفترة المايوية سافر لدولة الإمارات وظل يعمل هناك حتى غيبته المنية عام 1992م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى