طه علي البشير يكتب : حلم الإمام بالديمقراطية وزخم المارشات العسكرية

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة بدءاً وختماً وصلى الله على سيدنا محمد ذاتاً ووصفاً واسماً..

قال تعالى:

(كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين)

(الآيات 57-58) سورة العنكبوت

ثم أستعين باسم الله خالق الموت والحياة جاعل الظلمات والنور وأسأله أن يحل عقدة من لساني وقلمي حتى تسمو كلماتي وترتقي إلى مقام الإمام الراحل الذي شق علينا نعيه, ولكنها إرادة الله ولا معقب لحكمه سيدي ما أعظم البلاء وأجل الخطب وما أقصر رحلة العمر برغم ما حفلت به من جهاد وتعب ونصب, هذا العمر الذي أفنيته من أجل مقاصد عليا نبيلة وأصيلة كأصالة فرعك, طيبة كطيب أرومتك, عزيزة كعزة نفسك.

لقد عرفت السيد الصادق عند مطلع الستينات يوم أن هبت رياح ثورة أكتوبر المجيدة وكنت وقتها طالباً بجامعة الخرطوم التي أقيمت فيها تلك الندوة الحاشدة التي كان من أعظم إنجازات تلك الثورة أنها أشعلت فتيل الثورة وأسرجت قنديل ضيائها انبسطت أفقاً فسيحاً سطعت عليه نجوم لوامع كان لها ما بعدها في مسيرة وتاريخ السودان السياسي والأدبي الحديث. ولعل الإمام السيد الصادق كان من ألمع تلك النجوم ضياءً وما بلغ الثلاثين من عمره, عرفت السيد الصادق منذ ذلك الوقت معرفة مراقب أو معجب لثائر, ثم جمعتنا بعد ذلك دروب السياسة الوعرة وقد قاد الحزبان الاتحادي والأمة زمام الأمر وكانا أي الحزبين في نظر الرائي على طرفي نقيض إلا أن الواقع كان يقول إننا على متن مركب واحد يمخر بنا عباب بحر متلاطم الأمواج، وكان القاسم المشترك بيننا في الحزبين الكبيرين هو حب الوطن والتفاني في خدمته. نعم ولج الإمام الراحل الصادق المهدي مسالك السياسة، وكم كانت عسيرة وشاقة, فما أن تولى رئاسة الوزارة من بعد حكومة الراحل سر الختم الخليفة الانتقالية حتى علا صوت مدرعات ومارشات العساكر معلنة الانقلاب على الديمقراطية في مايو 69.

وبدأت رحلة الرهق والمتاعب التي خاض غمارها الراحل المقيم صابراً ومحتسباً مؤمناً بحق شعبه في الحرية والديمقراطية والعدالة والسلام، وقد تعرض بسبب قناعاته وأهدافه وأحلامه برفاه شعبه السجن والإبعاد والنفي وأحكام المصادرة بل حكم الإعدام، ولكن ما فتّ ذلك من عضده ولا أثناه عن قيمه رحمه الله.. ومبادئه وقناعاته الراسخة بأن الديمقراطية عائدة لا محالة وراجحة كما ظل يردد.

سيدي الإمام: فقد كنت مثلاً وأنموذجاً وقدوة ونبراساً مضيئاً كما كنت مثلاً شروداً في الحجا والتواضع وسعة الصدر وثاقب الفكر وراجح الرأي وأن القلم ليعجز عن حصر مآثرك.

وحقاً كان فقدك فقد أمة وليس فرداً, نعم أخي الإمام المبجل: دعني أعترف أن ذاكرتي قد شاخت وأصابتها ثقوب أيامٍ حَوالك عاشها الوطن الحبيب، ولكن وما أن ترامى إلى مسمعي صوت ناع حزين يبكيك حتى بكيت أسفاً ولوعة على نجم هوى من علياء أفقه مخلفاً ليل حزن شديد العتمة، لقد استرجعت ذاكرتي “برغم ثقوبها” عشرات المراثي والبكائيات الحزينة وكانت جميعها دون مقامك وإن تشابهت المعاني والخصال، وهنا أردد ما نحب أن نخاطبك به:

من لي بإنسان إذا أغضبته * وجهلت كان الحلم رد جوابه

واذا طربت إلى المدام شربت * من أخلاقه وسكرت من آدابه

وتراه يصغى للحديث بقلبه * وبسمعه ولعله أدرى به

وحينما جاءت لحظة التشييع على ثرى قبة جدك الإمام المهدي عليه السلام قفزت مع دموع عيون الجميع كلمة القائل:

كأن لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح

لأن حسنت فيك المراثي وذكرها * فقد حسنت من قبل فيك المدائح

وهنا أيضاً تأتي كلمة أبو الطيب المتنبي التي تتردد على آذان الحضور وأفواههم وبعد أن تبللت لحاهم بالدموع:

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى   أن الكواكب في التراب تغور

ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى   رضوى على أيدى الرجال تسير

خرجوا به ولكل باك خلفه   صعقات موسى يوم دك الطور

حتى أتو جدثاً كأن ضريحه   في قلب كل موحد محفور

نبكي عليه وما استقر قراره   في اللحد حتى صافحته الحور

أخي الإمام الحبيب الراحل: وما أن ارتفعت الأكف في ابتهال وخشوع تدعو لك بالرحمة والمغفرة حتى أتاني صوت جدك الإمام المهدي يصدح بدعاء من الراتب رائع المعنى قوي المبنى:

“اللهم يا مذكوراً بكل لسان.. ويا مقصوداً في كل آن.. ويا مبدئاً لكل شأن.. ويا من بيده الأكوان.. ويا أول وآخر.. يا ظاهر.. يا باطن.. ويا مالك كل جرم وعرض وزمان أسألك بما توليت من الأولياء من عبادك أن تتولى الإمام الحبيب الصادق الصديق بعفوك وغفرانك وجميل إحسانك إنك سميع مجيب.. فقد كنت كوكباً هوى من سمائنا ونحن أحوج ما نكون لضيائه, وكنت حكيماً غيبه الموت ونحن في انتظار حكمته ونافذ بصيرته وآرائه في زمان تناوشنا به الخطوب, وكنت بلسماً يداوي جروح الوطن بحلمه وأناته وسعة صدره فما أحوجنا وحسرتنا وقد اندلق الدواء وسكن الثرى لقد كنت نسمة عبرت وبسمة زالت وشحبت على الشفاه وفرحة انسربت من بين أيدينا ومضت وعبرة وغصة بموتك خنقت.

وأخيراً سيدي ماذا أقول وكل من قرأ كلمتك الأخيرة علم أنها خطبة وداع وتحية مودع. نم أيها الإمام المبجل هانئاً هادئاً فقد أعطيت وما استبقيت وبذلت وما بخلت وحدثت فما كذبت، وآخر قولي ورجائي يا الله اربط على قلوبنا وقلوب أفراد أسرته وأحبابه وألهمنا يقيناً ننال به أجر الصابرين المحتسبين الراضين بحكمك وقضائك اللهم آمين.

أخي الإمام الراحل: ها أنا أرثيك بكلمات قد يظن قارئها بأني أنصاري الهوى والهوية كلا فأنا ختمي الفزعة اتحادي النزعة ولكني نهلت من أجيال كانت تعرف للرجال أقدارها وأدوارها ولعلك أخي الامام كنت أحد تلك الثريات المتألقة والعناقيد المتأنقة التي حفظت للسودان وأهله تميزهم وتفردهم وسماحة خلقهم ولا زلت أذكر دعوتك الكريمة لي وإصرارك علي لحضور اللقاء الذي احتضنته أديس لآخر جلسة لنداء السودان وتنادى له بعض ألوان الطيف السياسي وكذلك الإخوة في الحركات المسلحة آنذاك وهنالك التقيت بالإخوة الأعزاء د. جبريل إبراهيم, منى أركو مناوي, مالك عقار,  ياسر عرمان, عمر الدقير, المرحوم د. أمين مكي مدني، وكان الإمام في المنصة الرئيسة وبجانبه أمبيكي والمندوب الأمريكي. فقد كان الجميع يثقون في جهودك ونبل مقصدك وقد شهدت يومها سعيك الحثيث من أجل جمع الكلمة ووحدة الصف واعتماد الحوار وسيلة وحيدة لغاية مجيدة وهي السلام الجامع والعادل, نعم أذكر لك ذلك الجهد، وأسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتك وأنت اليوم أمام غفور رحيم.

“رحمك الله أيها العف اللطيف الصادق المؤمن الذي يألف ويؤلف”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى