محمد فقيري يكتب : دَوَّامة التّوهـــان بين تعاليم الإسلام وسلوك المسلمين الالتصاق الصفيق والبُعد السحيق السودان نموذجاً (9)

 

كل الآيات التي ذكرناها في الحلقة السابقة، وغيرها، لها عدة تفاسير، ولكن المهم أنها تفيد فردانية التكليف وحرية قبول الدين أو رفضه، فهي في الأساس تخاطب الناس كأفراد، ولذلك فالحساب يوم القيامة حساب فردي، يهرب فيه المرء من أقرب أقاربه، دعك من شيوخه وفقهائه، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]. ،الآية هنا لا تتحدث عن الكافرين، تتحدث عن (المرء)، أصل الدين هي القيم الإنسانية العليا، والتي تتمثل في مكارم الأخلاق، والدين هو أن توحّد الله كخالق أوحد للكون، وأن لا تشرك معه أحداً في ملكه، وأن تكون على الصعيد الفردي مسلماً، تراقب الله في كل فعل وقول، وأن لا تنافق ولا ترائي، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وأن تعامل الناس بالحسنى، فـ (الدين المعاملة)، وأن تتفقد جارك، وأن تنفق من مالك للمحتاجين دون أن يعرف شمالك ما يجود به يمينك، وأن لا تتدخل في ما لا يعنيك، وأن تتمم مكارم الأخلاق، والرسول يقول (جئت لأتمم مكارم الأخلاق)، وليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولابذئ، أو كما في نص الحديث، وأن تتجنب الظلم،  وأن تتحلى بالأمانة والنزاهة والرحمة، وأن تقابل الناس بالبشاشة وطلاقة الوجه، وأن تكف الأذى عنهم، وأن تكون لين الجانب، الدين إحساس داخلي عميق، يورث التقوى والورع، حالة قلبية يقود إلى الإحسان والعفو والصفح، ويستطيع الإنسان أن يكون مؤمناً تحت أي نظام، وفي أي بيئة، ووسط أي مجموعة، فلا يضره من ضل إذا اهتدى، ولا يُنقص من إيمانه كُفر من كَفر، هذا هو الدين، الذي هو لله، وهو ثابت، لا يتغير في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة، هذه هي مقاصد الدين الكبرى ومعانيه السامية وروحه النبيلة. هذه هي المبادئ التي تمثل القيم العليا للإنسان التي أراد الدين تحقيقها.

أما الشريعة المأخوذة من الفقه، فهي اجتهادات أفراد، وهي تفسير للآيات على ظاهرها، في أزمان معينة في أمكنة معينة، حسب فهمهم، وثقافتهم، ومواريثهم الأخلاقية، وأحوال مجتمعاتهم، وأوضاعهم السياسية. وهذه التفاسير التي نقرؤها في كتب القدماء أو السلف، تختلف كثيراً أو قليلاً من عصر إلى عصر، بل تختلف في العصر الواحد، وهذه التفاسير لا تتوقف على التفسير اللغوي لمعاني الآيات، إنما يؤثر فيها وجدان المفسِّر وانتماؤه المذهبي، ويخضع التفسير لسطوة السلطة المسيطرة، أراد المُفسر أو أبى، وهي تفاسير ظنية وليست يقينية، ولا يستطيع كائناً من كان أن يفسر الآيات تفسيراً يقينياً ثابتاً، فكلٌ يفسر حسب تمكّنه من آلة التفسير، وهي اللغة، واللغة يتغير فهمها مع مر العصور واختلاف الأماكن، والفقه مرتبط ارتباطاً تاماً بالزمان والمكان الذي يحدث فيه، وبالمجتمعات على اختلافها، واللغة ليست مفهومة بنفس المعاني في كل زمان ومكان، ولذلك فنحن نرى أن فقه علماء الشام يختلف عن فقه علماء العراق، عن فقه علماء مصر، عن فقه علماء المغرب العربي، عن فقه علماء الأندلس، وتفسير العصر الأموي ليس هو نفس تفسير العصر العباسي أو تفسير العصر العثماني، ونرى أن بعض الأئمة تغيرت آراؤهم الفقهية حينما انتقلوا من مكان لآخر، كما فعل الشافعي، فهو عندما رحل إلى مصر تغيرت آراؤه، الفقهه أخذ من القرآن، والقرآن حمال أوجه، مليء بالدلالات التي تظهر في كل عصر، والحكمة في أن القرآن آخر الكتب السماوية، وأنه صالح لكل عصر، هو أن القرآن قابل للاجتهاد فيه، يستمد منه كل عصر ما يناسبه، لذلك، فلابد من تجديد الفقه بما يتناسب مع العصر، وبما يتماشى وحالة المجتمع وتداخل العلاقات الدولية التي لم تكن موجودة في عصر السلف، وعندما يتحدث الناس عن ترفيع الفقه إلى مستوي العصر، فلا يقول أحد بخلق إسلام جديد، ولا يقول أحد بتبديل العبادات من صلاة أو صوم، لا أحد يدعو إلى اختصار صلاة الظهر من أربع ركعات إلى اثنتين مثلاً، ولا أحد يدعو إلى تحويل الصوم من شهر رمضان إلى ذي القعدة، ولا أحد يدعو إلى إعادة صياغة الشهادتين، ولا أحد يدعو إلى اختصار أشواط الطواف حول الكعبة، لا أحد يدعو إلى تطوير الدين الإسلامي في عباداته، ولا إلى إعادة كتابة القرآن، فلك أن تتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، لك أن تصلي مائة ركعة في اليوم، لك أن تصوم الدهر، لك أن تذهب إلى الحج كل عام إذا كانت لك استطاعة، لك أن تلتحي وأن تلبس القصير، لك ولك ولك، لك أن تمارس شعائر الدين على الصعيد الفردي كما تشاء، ولكن، ما ليس لك هو أن تتدخل في ما لا يعنيك من ممارستي للعبادات، ما ليس لك هو أن تفرض عليّ رؤيتك أنت للدين، ما ليس لك هو أن تكفرني إذا اختلفتُ معك في تفسيرك للدين، ما ليس لك هو أن تحكم على إيماني بالنقصان لرفعي التقديس عن أراء القرون الأولى، ما ليس لك هو أن تغلظ لي القول إذا أردت نصيحتي، ما ليس لك هو أن تتسلط عليّ باسم السلف، ما ليس لك هو أن تحكم على عقلي بالقصور والضمور والفساد والسقم، فقط لأن عقلي لم يوافق عقلك الموافق للمنقول، وهذا المنقول ليس إلاّ ما تعقّله أناس أمثالنا، لنا عقول مثل عقولهم، فلماذا نوقف عقولنا ونعتمد على ما توصلت إليه عقولهم؟، إن الذي يَنقل إلينا أقوال السلف وكأنها نصوص قطعية صحيحة وثابتة، لا ينتبه إلى أنها لا يمكن أن تكون قطعية ولا ثابتة، ولا يمكن أن تكون كلها صحيحة، لأنها أعمال إنسانية، وإذا كان الناقل قد ارتضى أن يلغي عقله أمام عقول السلف، فأنا لا أرتضي لعقلي أن يذوب في أقوال من سبقني بآلاف السنين، ثم، كيف توصلتَ أنت إلى أن عقلي قاصر وسقيم؟ بالضرورة توصلتَ إلى هذه النتيجة بعقلك، وأتيتَ لتحكم على عقلي بما أوصلك إليه عقلك، هل من منطق (عقلي) هنا؟ ليس لك حق ديني ولا عقلي في أن تحكم على عقلي بما لا ترتضيه أنت على عقلك.

الخلافات فيما يُعقل وما لا يُعقل لابد أن تكون في بيئة عقلانية، ولكن إذا كانت هناك فئة تضفي قدسية إلهية على منهجها وفهمها وتفسيرها للنصوص، وتضع النتيجة كحقيقة مطلقة لا تقبل النقض، فلن يكون هناك حوار عقلي، في تلك الحالة، من الطبيعي أن يكون التكفير واللعن والشتم والقتل والذبح والحرق والتفجير والتقطيع واتهام عقول الآخرين بالفساد هو المسيطر، وإذا كنتَ تعتبر عقلي فاسداً وقاصراً فلماذا تحاورني إذن في المقام الأول؟. أنا لا أعتبر عقلك قاصراً ولا فاسداً، أنا فقط أختلف معك في وجة نظرك، لذلك أحاورك، العقلانيون لا يتهمون غيرهم بقصور عقولهم ، بينما يتهمهم غيرهم بذلك، ذلك أن العقلاني لا يعتقد بامتلاكه الحقيقية، بينما يعتقد الآخرون أنهم على الحق المطلق.

نواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى