Site icon صحيفة الصيحة

د. الصاوي يـوسف يكتب:سلام جوبا

 

رغم أن الفصائل المسلحة التي وقعت اتفاقية جوبا سوف ترفد الحياة السياسية، كما أسلفنا في مقال سابق، بكوادر أفضل من التي تتولى الأمور حالياً، وهذا شئ إيجابي، إلا أن تنفيذ الاتفاق سوف تترتب عليه الكثير من المشاكل التي تتفوق كثيراً على ما  ترتب على اتفاقيات أبوجا ونيفاشا والدوحة.

وعلى رأس الإشكالات المتوقعة هو تمويل هذه الاتفاقيات الطموحة إن لم نقل غير الواقعية، فهي تتحدث عن مليارات الدولارات التي تمنح في تمييزٍ إيجابيٍ لتنمية بعض المناطق، وتتحدث عن إعفاءٍ من رسوم الدراسة، مع تخصيص نسبٍ محددةٍ من  المقاعد لتلك المناطق، تزيد عما كانت ستستحقه عبر القبول الموحد وفق آلية مجموع الدرجات في امتحان الشهادة، ومن المؤكد أن الجامعات سوف تعاني من ثغرةٍ كبيرةٍ في تمويل ميزانياتها، لمدة عشر سنوات، تسددها الحكومة الاتحادية تعويضاً لها. وتتحدث الاتفاقيات عن إدماج عشرات الآلاف من ضباط وجنود الحركات المسلحة في الجيش النظامي، وهذا سيفتح الباب كما هو حادث الآن بالفعل، لتسجيل وتجنيد الآلاف صورياً في قوائم القوات، مما سيفتح الباب للحصول على وظائف ورتب مجانية، ينبغي وفقاً للإتفاقية أن تتكفل القوات المسلحة، أي الدولة، بمرتباتها ومخصصاتها وملابسها العسكرية وكل تشوينها، هذا عدا عن السيارات والسكن والتسليح وغيره. وحتى وظائف الوزراء وأعضاء مجلس السيادة والولاة ووزراء الولايات، التي قد تبدو قليلة العدد وغير مؤثرة، ولكن وفقاً لتجربة الاتفاقيات السابقة  مع الحركات، ووفقاً لتجربة قوى الحرية والتغيير، فإن تعيين مسؤولٍ واحدٍ ينطوي على تعيين عددٍ هائلٍ من الأتباع والحاشية، الذين لا تُعرف وظائفهم، ولا وجود لهم في هيكل الخدمة المدنية، وصلت لدرجة تعيين حرس شخصي مسلح من خارج القوات النظامية كما رأينا في صور وجدي صالح، ورأينا كذلك  النثريات المليارية المهولة التي تنفق على هذه المكاتب، والميزانيات المفتوحة التي توزع على لجانٍ هلامية، كتلك التي كانت في وزارة الصحة أيام د. أكرم، أو كالتي تدفعها وزارة المالية للجنة إزالة التمكين، أو كالتي أُنفقت على طيران وفنادق ونثريات المئات الذين اصطحبوهم إلى جوبا لحضور التوقيع.

ومن الإشكالات المهمة المتوقعة ما ورد في الاتفاق من تخصيص نسبٍ ثابتة في حكومات بعض الولايات، للموقعين على اتفاقية جوبا، خاصة ولاية شمال كردفان، التي لم تشارك في المفاوضات، ولم تؤسس حركةً تحمل السلاح وتقاتل بإسمها، إذا افترضنا أن ولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان وكل ولايات دارفور قد فوضت هذه الحركات الموقعة. وسوف يحدث في شمال كردفان مثلما حدث في كسلا حين حاولت الحكومة أن تفرض عليهم والياً لا يريدونه. وهناك تحركاتٍ محمومة لتنشيط حركات التمرد في شمال كردفان لأول مرة، خاصة بعد أن ثبت بالدليل، أن حكومة الثورة أيضاً، مثل حكومة الإنقاذ، لا تفاوض ولا تعطي اعتباراً ولا حقاً إلا لمن حمل السلاح، ويحصل من يتمرد على الدولة تمرداً مسلحاً على قدرٍ من السلطة يتناسب مع عدد ضحاياه وخسائر تمرده! ولا يفهم المرء كيف تحصل حركات تزعم أنها تمثل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، على مقاعد في حكومة شمال كردفان الهاملة!

ومن الإشكالات الكبيرة أيضاً، بالطبع، رفض سكان المناطق المستهدفة نفسها لهذا الاتفاق، لأن الذين تحدثوا بإسمهم لم يكونوا يمثلون إلا أنفسهم و فصائلهم، وليس شعوب تلك المناطق. فحركتا جبريل ومناوي لا تمثل النازحين في دارفور، وهم بالملايين. وحركة عقار وعرمان لا تمثل جبال النوبة قطعاً، لا سياسياً ولا عرقياً وجهوياً، ووجود الحلو في دويلته المحررة في كاودا أكبر دليل على ذلك. أما الشرق، فما نراه فيه من حرائق الآن يكفي لمعرفة رأيه في الاتفاقية التي وُقّعت زوراً بإسمه، والحكومة عنه في شغلٍ وغفلة.

إتفاقية جوبا مدخلٌ لعودة كوادر هذه الحركات للمشاركة في الحكم، ولكنها للأسف مدخل أيضاً  للكثير من المشاكل التي سنراها قريباً، وتهون أمامها تمردات الحركات التي تعايشت معها البلاد في السابق.

Exit mobile version