د. الصاوي يـوسف يكتب : الدولة المدنية والشرطة

 

هتف الثوار هتافهم الشهير مطالبين بالدولة المدنية، وسقط الشهداء دونها وسالت الدماء من الجرحى في سبيل تحقيقها. وردّد الملايين مطلب “المدنية”  حتى سقط النظام. ولكن هناك فهماً مغلوطاً للمدنية. عند المواطنين،  الذين يظن بعضهم أن المدنية هي غياب القانون والنظام والدولة والسلطات، وأن يفعل المرء ما يشاء دون أن يعترضه أحد أو يسائله أحد. وفهم مغلوط حتى عند الشرطة، فهم قد غضبوا، ومعهم حق، من هتاف بعض الجهلة ومتسلقي الثورة، ذلك الهتاف المسئ والمستفز. وبسبب ذلك الفهم المغلوط وذلك الغضب، ظلت الشرطة تبعد نفسها عن التدخل في كثير من الأحداث والمواقف. ابتعاداً عن الشبهات، وخوفاً من الاتهام بمجانبة المدنية المطلوبة.

 

والحقيقة أن الدولة المدنية هي دولة سيادة القانون، وهي دولة النظام  لا الفوضى، وهي دولة الشرطة بامتياز.  فالدولة المدنية في تعريفها السهل هي عكس تلك التي تحكم بالقانون العسكري، الذي يفرض فيه الحاكم العسكري أوامره لتطاعَ دون نقاش، ويفرض فيه ما يشاء من فرمانات جائرةٍ وظالمةٍ ومتعسفة. وليس للمواطن فيها حق الاعتراض ولا الاحتجاج بالقانون والتحاكم إليه، دعك عن المشاركة في صياغة وتشريع القانون نفسه.

 

الدولة المدنية إذن هي دولةٌ يحكمها قانونٌ ارتضاه الشعب أو أغلبيته، ويحكمها حاكم ارتضاه الشعب أو غالبيته، سواء كان ذلك عبر الانتخاب أو الاستفتاء أو حتى الثورة الشعبية كما هو حاصل عندنا في الفترة الانتقالية. وفي الدولة المدنية الناس متساوون أمام القانون، ولا يحق لأحدٍ أن يخرقَ النظام المجتمعي ولا القانون السائد، ولا أن يتعدى على حقوق الآخرين، ولا أن يهدد السلام والطمأنينة والأمن. فمن الذي يضمن ذلك؟ من هو  الحَكَم في هذه المباراة التي يشارك فيها الملايين؟  إنه الشرطة!

 

الشرطة يا سادتي هي عماد الدولة المدنية، وهي أهم أجهزة المجتمع، وأول أجهزة الدولة المدنية التي تطبق قواعد المدنية، ونظمها وقوانينها. الشرطة هي الحارس الساهر، في الأحياء والطرق والأسواق، على مدار ساعات الليل والنهار، في المدن وفي القرى وعلى الحدود والموانئ والمطارات. الشرطة تحرس المواطنين، والأموال، والأسواق والعقارات والممتلكات، وهي التي تؤمِّن المسافر في العراء والنائم في داره والسائر في الظلام، هي التي تحمل الصفارة في وسط الملعب، وتوقف “رجل خط” في كل مكان، لتطلق الصافرة وترفع الراية الحمراء عند أدنى مخالفة للنظام والقانون. وهي التي تمنع المجرمين والمنحرفين، من الإخلال بنظام المجتمع المدني الذي ارتضاه الناس وقرروه، وهي التي تقبض المخالف، وتسلمه لأجهزة العدل، لتحديد جرمه وعقوبته. وهي مصدر الأمن النفسي والاجتماعي، وهي حارسة البوابات والموارد، تجدها تنظم صرف الوقود، وسير المركبات في الطرق، وتقوم بنجدة الملهوف وإسعاف المصاب وإطفاء الحرايق، وتحرس حتى الصيد من الخلاء من اعتداء من يتعدى عليه.

 

نسمع في الدول  المدنية الراسخة، مثل الولايات المتحدة، عن الشرطة وهي تقوم بواجباتها دون خوفٍ أو تدخلٍ من الآخرين، سلطات أو أحزاب أو مواطنين. فالشرطة، بحكم مهامها وتكليفها، هي فوق الجميع، وصاحبة الصوت الأعلى،  والكلمة الأخيرة. لها سلطة القبض والتفتيش والحجز، بل ونسمع عن عشراتٍ تطلق عليهم الشرطةُ النار، للاشتباه في كونهم مسلحين أو يشكلون خطراً على الشرطي نفسه، ولا يسائل أحدٌ الشرطةَ عن ذلك، إلا في حالة ثبوت سوء استخدام تلك السلطة لدوافع عنصرية مثلا.

 

الشرطة هي صديقة المواطن الملتزم بالقانون والنظام، ولها التقدير والاحترام وهي تؤدي ذلك الدور، ولكن الشرطة عدوٌ مفوضٌ  ويملك كافية الصلاحيات، للمخالفين والمجرمين والمعتدين، وكل من يظن أن المدنية تعني الفوضى وتحدي الشرطة والقانون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى