النيل الأبيض.. مأساةُ غرقٍ جديدة

شبشة- أحمد جبريل

رسمت مآسي وآثار موسم الأمطار والفيضانات والسيول هذا العام ملامح الحزن العميق وتركت ذكريات مؤلمة لدى كثير من الأسر السودانية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ولا تكاد تكون هنالك ولاية لم تتأثر تأثراً مباشراً بموسم الخريف الحالي الذي وصف بأنه الأعنف منذ حوالي المائة عام، وفاق كل ما عرفه وألفه السودانيون من مواسم سابقة تركت ذكريات أليمة لديهم.

وبالرغم من أن عدد الخسائر البشرية توزع على ولايات السودان المتأثرة جميعا، إلا أن ولاية النيل الأبيض كان لها نصيب خاص من الحزن والأسى وهي تفقد مجموعة من الشباب غرقاً في فترات متقاربة، وأكثر هذه القصص إيلاماً حادث وفاة ثلاث فتيات من أسرة واحدة غرقاً في حي “العامرية” بمنطقة شبشة، وهي قصة تركت غصة في حلق كل من عايشها أو سمع بها.

المشوار الأخير

المثير أكثر للحزن والأسى أن الفقيدات الثلاث، كن من الفتيات المكافحات المثابرات، ولقين حتفهن وهن في مشوار السعي اليومي في عمليات الزراعة لإعانة الأسرة التي كانت تعول على مساعدتهن، وتدخرهن لمستقبل واعد مربوط بسيرتهن العطرة في الأخلاق والتربية والتميز الأكاديمي والنشاط والهمة العالية، لكن القدر كان أسرع إليهن ليتم فقدهن بطريقة درامية وفي لحظة واحدة، أحالت نهار المنطقة إلى ليل كالح السواد، متوشح بالحزن والأسى والأسف، رغم التسليم بقضاء الله وقدره.

انطلقت الفتيات النشيطات مع والدهن في الصباح الباكر إلى حواشتهم بمشروع التجاني في منطقة شبشة شمال مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض، للقيام بعمليات قلع الحشائش، إذ توالى هطول الأمطار في تلكم المناطق مانعاً المزارعين من ممارسة عمليات “الكديب” وتنظيف الحشائش.

وعقب انتهاء العمل بالمزرعة وفي طريق العودة، توقفت صغرى البنات “سعاد النور مضوي” ذات الاثني عشر ربيعاً والتي تدرس بالصف الثامن بمرحلة الأساس لشرب القليل من الماء من الترعة بعد أن شعرت بالعطش، لكنها كانت آخر محاولة لشرب الماء وكان وراءها المصير والقدر المحتوم، إذ زلت قدمها على حين غفلة منها وانزلقت إلى داخل ترعة المشروع العميقة، وهنا هبت شقيقتها “عواطف النور مضوي” الطالبة بجامعة بخت الرضا كلية التربية- المستوى الثاني في محاولة أخوية غريزية لإنقاذها من غرق أحاط بها من كل جانب، لكنها لحقت بها إلى داخل ترعة الموت، وسرعان ما تبعتهما ابنة عمهن “تنزيل حماد مضوي” التي تدرس بالصف الثاني الثانوي وكأن لسان حالها يقول إن غرقت أخواتي فكيف أعيش بعدهن وسارعت في محاولة يائسة لمد يد العون وإنقاذهما فغرقت هي الأخرى في ذات المكان، وغطى الماء على الأجساد الثلاثة وحال بينهن وبين حياة طويلة كانت في خاطرهن وخاطر أسرهن.

غير بعيد من المشهد، وفي طريق العودة ذاته كانت امرأة من ذات الأسرة تسير خلف الفتيات الثلاث ولحظت المشهد المرعب، فركضت بكل ما تملك من قوة وشعور تلقاء الترعة في محاولة لإنقاذهن وهن يلوحن بأيديهن طلبا للنجاة، ورمت بثوبها عل وعسى أن يساعد في إنقاذهن، لكن عندما فشلت طار صوابها وركضت بسرعة مستعينة بشخص كان في الجوار، فقام بإخراج جثتين وفشل في إخراج الثالثة التي نزلت إلى عمق سحيق بالترعة، وأفلح والدها وعمها في إخراج جثمانها لاحقاً ليتم تشييع الجثامين الثلاثة بمنطقة العميرية بشبشة في موكب حزين.

حزنٌ عميق

وقال مسلم مساعد مسلم، خال الفقيدات لـ(الصيحة)، إن المنطقة في حالة حزن عميق على وفاة الفقيدات، فقد عرفن وسط اهل المنطقة بالأخلاق الحميدة، حيث درسن الخلوة وحفظن خمسة عشر جزءاً من القرآن الكريم، وتحفظ الفقيدة عواطف أربعين حديثا نبويا، ويقمن بتدريس النساء في خلوة شيخ النور، وأضاف بأنهم مسلمون لقضاء الله وقدره، وأن والدي الفتيات سلما أمرهما لله تعالى محتسبيْن بناتهما في صبر وايمان.

يذكر أن ولاية النيل الأبيض فقدت خلال شهر سبتمبر الحالي عددا من شبابها غرقا حيث بدأت المآسي بغرق أربع فتيات يعملن في جني محصول الطماطم بإحدى جزر النيل الابيض في منطقة جنوب كوستي عندما انقلب بهن القارب قبل وصولهن إلى موقع عملهن بالجزيرة، ثم غرق أربعة من خيرة شباب مدينة تندلتي في خور ابوحبل الذي ظل يقتات أرواح الشباب كل خريف.

وتقع العميرية شمال الدويم وجنوب شبشة بولاية النيل الأبيض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى