قرية (دال).. مأساةُ إغراقٍ أُخرى..!!

 

الخرطوم- محمد جادين

خلفت السيول والأمطار والفيضانات واقعاً مأساوياً على طول البلاد وعرضها، وكان النيل هذا العام قاسياً على غير عادته الرحيمة يمضي بالخير والطمي، يهب الحياة السخية لكل القاطنين على ضفتيه بلا استثناء، لكنه فاض هذه المرة حد الخراب وغمرت مياهه الجروف والبيوت والأحلام والمزارع وحوّلت حياة الآمنين إلى وجل وهم يُشاهدون مناطقهم محاصرة بالمياه من كل جانب لا حول لهم ولا قوة، بيوتهم تشربت من “ساسها”، خارت قواها ولم تقو على الصمود وسط المياه المُندفعة فانهارت واحداً تلو الآخر، بعضها قضى نحبه والبقية تنتظر، صور عديدة خلفها الفيضان تجلت معاناتها في قرية (دال) بمحلية حلفا في الولاية الشمالية المُحاصرة بالمياه بعد أن داهمها الفيضان فجأة ولم يمنح أهلها فرصة إخلاء المنازل، فخرجوا منها حفاظاً على حياتهم وتركوا خلفهم المأوى والمتاع، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في انتظار يد العون من الجهات المسؤولة والمبادرين.

صمود متوارَث

تقع قرية (دال) بمحلية حلفا بالولاية الشمالية، تتوسد الضفة الغربية للنيل ضمن منطقة “السكوت” يحدها شرقاً نهر النيل، والصحراء الكبرى جنوباً وغرباً، تبعد حوالي (3) كيلومتر فقط عن بحيرة السد العالي الذي يؤثر عليها بشكل واضح من خلال ارتدادات مياه السد.

(دال) لها حكاية مع الصبر والاحتمال جسدت معاني البقاء بتمسكها بأرض الآباء والأجداد حينما رفض أهلها “التهجير” ومغادرة وادي حلفا والرضوخ للأمر الواقع بتنفيذ السد العالي، فكان الدرس الأول في الصمود وتأكيد العلاقة بين الأرض والإنسان، وأنهم باقون ما بقيت حِفنة تراب ويابسة، وكأن التاريخ يُعيد نفسه وأهالي المنطقة يتمسكون بالبقاء يطالبون الجهات المسؤولة بتخطيط القرية ونقلها إلى “العوالي” والمرتفعات القريبة وتحويل دورهم مساحات زراعية وضمها للمزارع والنخيل.

أضرار وخسائر

محمد ميرغني خليل سعيد أحد مواطني المنطقة يحكي لـ(الصيحة)، تفاصيل المأساة، قال إن مياه الفيضان داهمت (دال) بصورة مفاجئة ولم تمنح غالبية المواطنين فرصة ترحيل الأمتعة ومتعلقاتهم وأصبحوا في وقت وجيز محاصرين بالمياه المتدفقة بصورة لم يعهدوها من قبل، وأكد انهيار (25) منزلاً بصورة كلية، فيما أغرقت المياه (55) منزلاً آخر مُهددة بالسقوط في أي لحظة، وتعاني بقية البيوت من “النز” والتداعي التدريحي.

وأشار إلى أن ما تبقى من المساكن حاول الأهل إحاطته بـ”ترس” يخشى الناس ألّا يصمد أكثر مما هو عليه الآن، وقال “الوضع حالياً صعب جداً وأهالي المنطقة يُكابدون ظروفاً أقل ما توصف بأنها مأسوية وبعضهم فقد كل شئ وغالبية الأهل في الخيام”، ونوه إلى أن القرية سبق وتأثرت بفيضان 1985م، وأضاف: “لكن هذه المرة لا تشبه أي كوارث مضت فالمياه وصلت مساحات تبعد كيلو مترات عن النيل”.

نقص خدمات

وذكر خليل أن القرية تُعاني من مشاكل عديدة كحال قرى المنطقة، وأشار إلى ضعف وانعدام شبكات الإتصالات، وقال “المنطقة بها شبكة سوداني فقط ولكنها تتوقف عن الخدمة منذ السادسة مساء ولا تعاود الظهور إلا في الصباح”، ونوه إلى أن واحدة من المشاكل التي واجهت أهل المنطقة عندما داهمتهم مياه الفيضان لم يتمكنوا من الاتصال بالجهات المسؤولة للتدخل العاجل لإجلائهم، وأشار إلى النقص الحاد في وسائل الحركة لعبور النهر “الرفاسات”، وأكد أن عددها محدود جداً ولم تستطع ترحيل الأمتعة والممتلكات التي تركها أهلها مُجبَرون.

تدخل ومساعدات

وأكد أهالي القرية لـ(الصيحة)، وصول مساعدات وخيام ومواد غذائية للمتضررين، لكنها بطبيعة الحال لا تكفي مقارنة بحجم الأضرار والخسائر الكبيرة في الممتلكات، فكان أن وصل “الهلال الأحمر” بمحلية حلفا كأول جهة مسؤولة للمنطقة ومن ثم الدفاع المدني وعددا من المسؤولين منهم والي الولاية آمال عز الدين ووزير الصحة الذي تكفل بتقديم العون الكامل في الجانب الصحي، بجانب تحركات أبناء المنطقة بالعاصمة الخرطوم وتكوينهم لجنة حملت اسم “لجنة طوارئ الفيضانات” وصلت المنطقة تحمل قدراً من المواد الغذائية والمؤن والخيام والمشمعات، بالإضافة إلى دعم من شركة “دال” للمواد الغذائية.

فيما ناشد البعض الجهات العاملة في الحقل الإنساني لتقديم يد العون  للمتضررين من بينها مجموعة شركات “معاوية البرير”، بينما لم يتأخر مواطنو القرى المجاورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتقديم يد العون لأهالي (دال).

خيارات المُستقبل

بعد الكارثة التي ضربت المنطقة يتخوف أهالي (دال) من تكرار هذه المأساة مُستقبلاً في ظل التغيرات المناخية الكبيرة بعد قيام سد النهضة الإثيوبي وتأثيرات إرتدادات مياه السد العالي، حيث يرى غالبية أهل المنطقة أن الحل يكمن في ترحيل القرية إلى موقع مناسب وآمن لا يبعد كثيراً عن المنطقة لإرتباطهم بالنيل والجروف والأرض ومزارعهم ونخلهم.

وأكد عضو المركز العام للتجمع النوبي خضر حسين خليل لـ(الصيحة) أن أهالي القرية لا يُمانعون مُطلقاً ترحيلهم إلى مكان قريب من منطقتهم وتخطيط قرية نموذجية لهم لحل المشكلة بصورة جذرية وتفادي الفيضان المتوقع مُستقبلاً، وقال “وصلنا القرية وحضرنا اجتماع أهلها بالمسؤولين بالولاية وكان من ضمنهم وزير الصحة فهم لا يُمانعون تخطيط القرية في مكان آمن”، وأشار إلى أن إحدى الحلول التي طُرحت في الاجتماع تشييد “ترس” ضخم من الحجارة على طول حدود المنطقة لحماية القرية من الفيضان مُستقبلاً، ونوه إلى أن هذا الخيار قد يبدو صعباً لجهة الامتداد الكبير للمنطقة بجانب التكلفة.

وأضاف حسين بأن أهل القرية طرحوا أيضاً خيار ترحيل المنطقة إلى مكان قريب لا يبعُد كثيراً عن (دال) بشرط أن يتم ذلك وفقاً لخطة ودراسة واضحة من وزارة التخطيط العمراني بالولاية، على أن تُضاف بيوتهم إلى “السواقي” لتكون مساحات أخرى للزراعة بما يعود بالنفع على أهل القرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى