Site icon صحيفة الصيحة

د. الصاوي يـوسف يكتب : صعود الدولار

 

الصعود السريع في سعر الدولار ليس غريباً ولا مفاجئاً. والسبب هو توقف الإنتاج وانخفاض الصادرات إلى ما يقرب من التوقف. وأسباب تدني الإنتاج وقلة الصادرات معروفة. لقد استقر الدولار عند سعر جنيهين إلى ثلاثة جنيهات لسنوات طويلة، بسبب صادر البترول. ثم استقر حول 6 إلى 7 جنيهات لعدة سنوات  مسنوداً بصادر الذهب والمواشي  والمحاصيل. وبدأ رحلة الصعود الصاروخي عندما توقف صادر النفط بانفصال الجنوب، مع انفجار الطلب الداخلي على المشتقات النفطية، ما جعل البلاد مستورِدةً لكمياتٍ كبيرةٍ بدلاً من تصديرها، ثم ازداد الأمر سوءاً عندما انفتحت قنوات تهريب الذهب، وظلت تزداد حتى يومنا هذا.

لا علاقة لصعود الدولار بجشع التجار ولا بالمؤامرات الداخلية والخارجية. فالناس بحاجة للدولار، لاستيراد السلع وللسفر والعلاج والدراسة وغيرها من الأغراض. والدولة بحاجة للدولار لاستيراد القمح والوقود والأدوية والأسمدة وغيرها، وكلها تحصل عليها من السوق وليس من عائد صادراتها، فهي لا تملك أي صادرات. وأغلب العملات الحرة  مصدرها هو المغتربين، وهؤلاء يبيعون عملاتهم في الخارج، ولا تدخل إلى البلاد أصلا. ويشتري من يحتاج إلى الدولار عملاته ويستلمها في الخارج، لأن الحصول عليها في الداخل صعب أو مستحيل، والخروج بها ممنوع.

ولا علاقة لارتفاع الدولار بما يزعمونه من وجود أغلب الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي، فذلك أمر لا علاقة له بقيمة العملة الوطنية. فالبنوك مجرد أصحاب متاجر تودع عندها مالك لتقوم بالدفع منه عبر الشيكات أو البطاقات، ولا أعتقد أن هناك من يدخر أمواله لدى البنوك لتبقى سنيناً أو ليستثمرها البنك في الدورة الاقتصادية الإنتاجية. وقد كان الجنيه يعادل ثلاثة دولارات حتى منتصف السبعينات، حتى حين لم يكن بالسودان بنوك أصلا، بل كانت حوالي ثلاثة بنوك أجنبية، يتعامل معها بضع فقط مئات من كبار التجار في العاصمة، أو كبار الموظفين في الخرطوم. وكانت كل الكتلة النقدية موجودة بأيدي المواطنين، ومع ذلك كان سعر الجنيه مستقراً ومرتفعاً، ذلك أن البلاد كانت حينها تصدّر القطن والصمغ وغيرها من المنتجات، ولا تستورد إلا القليل من  احتياجات النخبة الخرطومية، ولم يعرف السودان حينها استيراد غذائه الرئيس (القمح) ولم يعرف مئات آلاف السيارات الخاصة التي تحتاج لوقود بحوالي 3 مليار دولار سنوياً، ولم يعرف الملابس المستوردة والمفروشات المستوردة، ولا شركات الاتصالات الأجنبية التي تصدر الأرباح، وغيرها من مُهلكات العملة الصعبة. كان أكثر من 70 في المائة من المواطنين، خاصة في الأرياف والأقاليم، يلبسون الدمورية والدبلان والزراق، ويأكلون الذرة والدخن والقمح المحلي، ويفرشون بيوتهم بالعناقريب والبروش، ويركبون الدواب والقطار وبعض اللواري السفرية القليلة. ولذا كانت عائدات الصادرات مخصصة لإجازات النخبة في الخارج، وبعثاتهم  الدراسية، وملابسهم الفاخرة المستوردة، وكان عددهم قليلا.

والآن توفر الدولة مئات الملايين من الدولارات لدفع التعويضات الأمريكية (وهي صفقةٌ رابحةٌ إن تمّت، فمقابل هذه المئات من الملايين، سوف يُرفع السودان من قائمة الإرهاب، ويستطيع حينها الحصول على المعونات الأمريكية، والقروض، والتعامل مع النظام النقدي العالمي في التحويلات والصادر والوارد، بما يعوض ذلك المبلغ ولو بعد حين)، وتقوم الدولة نفسها باستيراد الغذاء والوقود من الخارج، ثم دعمه ليصل للمحظوظين بأقل من ربع سعره العالمي، فيزدادون له استهلاكاً وعليه إقبالاً، ويزداد الطلب على العملة الصعبة لاستيراد المزيد من السيارات والمفروشات والملابس والكماليات الأخرى.

المعادلة بسيطة: إما زيادة عرض الدولار، بزيادة الإنتاج وتوجيهه للصادر، وإما خفض الطلب بوقف الاستيراد إن استطعنا الاستغناء عن تلك الواردات، وإما بالاثنين معا. أما مطاردة تجار العملة وصبية البرندات، فهذا لن يوفر إلا نحو مليون دولار واحد، يشتريه نفس التجار بسعر أقل ليبيعوه  الأسبوع القادم بسعر أعلى كثيرا، ويستمر الصعود.

Exit mobile version