أكاليلُ وردٍ على قبر الجنيه السوداني

محمد محمد خير يكتب :

الأرضُ لا تضيق على اتساعها لكائنٍ أفقده الموت قدرة الاستمرار على أديمها، لكنها ضاقت بي حين قرأتُ التعليق أسفل الصورة أعلاه؛ حيث كان الجنيه السوداني يعادل (4) دولارات. فقد نشأ الجنيه (أب جمل) مرتبطاً بأنوف مواطنيه ومندرجاً في سياق عِزَّتهم، تَخلَّق في ثنايا سمسم القضارف وخدود الكركدي الحمراء وأكسبه القطن سجيَّةً بيضاء كلوزاته.
أرضعته أبقار البقّارة من أثدائها (الجعارة) اللابنة فتفتَّحت في شرايينه دماء القدرة، توسّدته الأرض حين كانت موضوعاً شاملاً للعمل دون اقترانٍ بالريع، واستصحبته المصانع من غير أن تجعله فائضاً للقيمة.
قبرهُ القلوب التي تعشق السودان حقيقةً ومجازاً، الأفئدة المكلومة التي تهفو سويداؤها (لعزَّة في هواك) وتستعصم في حزنها الكليل بفقده لـ(تمَّ دُورو ودّوَّر)، راضية بقضاء الله وقدره في أمر رجلٍ تناهشته ذئاب التخزين والمضاربات، وأضرَّ بثباته تغيّر الأنظمة، وأسقم جسدَه التناحر، وعَصَفت به الأهواء الذاتية المؤسسة على الأنا الفردية والجماعية، وتركَته يعيش موتَه منفياً مع من سبقوه بعد أن كان عاصمهم من الزلل.
لهفي عليك يا (ماعُون الدّهن يا نَزَّاز) أتذكّر لونك السماوي البشوش حين كان الجمل يسندُ ظهرك، ويزيِّن وجهك توقيع السيد الفيل؟!.
جملٌ من سلالة (صكاء ذعلبة إذا استدبَرتها)، ويعني هذا بلغة الحداثة، النياق النجيبات المراسيل، وفيلٌ يحافظ على البنك المركزي.
تحرق الحشا حين أنذَرت البروق معلنةً بدء إصابتك بالسرطان، يوم استُبدل الجمل الكباشي الصبور بصقر الجديان الذي حمَلك على جناحيه وطار بك، ترافقه العقبان والكواسر وبغاث الطير والصقور التي ازدردت مناقيرها لحمك المهول، وما ترَكت لأوتارك اهتزازاً، من قال لهم إن للطيور الجوارح طبائع الإبل؟!.
مات الجنيه السوداني مقتولاً بطعنات أبناء السودان من التكنوقراط، ومن تشهد لهم دهاليز المضاربات الخبيئة بالقدرات الثرة في إدارة الأعمال غير المشروعة.
أجزم أنه مات مقتولاً لأسباب تتعلق به وبتاريخه واسمه، وقد ظلَّ قبل موته المُدبَّر موضعَ الشك من جميع الماسكين بالاقتصاد من عَصَبِه وأعصَابِه، لذا تنادى المضاربون وأوسعوه ضرباً بالمضاربات، حتى مات مقتولاً وتحوَّل ببدنه النازف لبضاعةٍ بخسةٍ أمام الدولار، بعد أن كان أَنُوفَاً أمام فرانكلين، وصارم القسمات في وجه جورج واشنطن.
كان الأغنياء الذين أمكن لهم الثراء به على أصابع اليد (علي دنقلا، أبو العلا البربري، وعثمان صالح)، تشاركهم رأس ماليات إغريقية يفيض إنتاجها الغذائي على الألسن بالمذاق الخالي؛ ودونك (رغيف باب كوستا) وسندوتشات (جورج مِشرقي) وألبان (عزيز كافوري). كان هذا نموذج الثراء في الستينات يوم لم يكن مظهر الثراء غير لواري الهوستن والسفنجات التي تستوردها شركة (سودان مركنتاي)، فقد كان أعلى مراحل الثراء الاجتماعي على مستوى الأحياء والمناطق، ولملاكها وزنٌ اقتصاديّ يثير الضغائن الطبقية، واستحال اللوري في ذاك الزمان لمعشوق يتصل بصاحبه كناقة طرفه بن العبد، وفرس امرئ القيس، فهو (دود الخلا) وغرّة عين صاحبه الذي لا يبخل عليه -في نهاية المشاوير الطويلة- بالاستحمام المعلن أمام مرأى الناس عن طريق العفريتة التي ترفعه عالياً وهو باذخ وسط مشاعر صاحبه المفعمة به وبحمد الله والصلاة والسلام على النبي.
وجَّهوا طعناتهم نحو بَدنك بمهارة بعد أن سقطت على الأرض يا (توري أب زنود)، وتوالت الطعنات وأحضروا سكاكينهم الصقيلة و(التور كان وَقَع كِترَاً سكاكينو).
لهفي عليك يانجيَّ الفؤاد ورحمة الله تتغشاك.
كنتَ رمزاً لجيل الآمال الكبيرة ووشماً يميّز بين العالمين عزتنا، وأسألك اللهم عصمته كي لا يسعى بين العملات في يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم؛ فلم يكن يَسأَل الناس إنما كان الناس يسألون به.
أطلق الهشاب عناقيد سوداء من الصمغ العربي التي كان يسند بها ساقيك لتلتصق بعنادٍ أمام كلّ العملات، وتدلَّت دمعةٌ من نارٍ على شلوخ مطارق من عينيّ شيخٍ كنتَ سنده من العَوز.
من لي باستجلاء محاسنك حين تنتجع بشرف المحاصيل النقدية وكبرياء حلمها الخلاق لحافظة شيخٍ مصنوعةٍ من التيل، مكتوب عليها باللون الأخضر: (جمهورية السودان الديمقراطية).
أو حين تهوي من غير موعدٍ على كفٍّ مفلسٍ عطيَّةً من رجلٍ كريم، أو حين تهجع لجيب أفنديٍّ يدخِّن البينسون ويتفوَّه جَذِلاً ببعض الكلمات الإنجليزية الرصينة من شاكلة (آربتريشن) بإحكام الغنَّة، غير آبهٍ بما يُضمره الغد.
أو حين تكتمل دورتك المالية الرائعة فتخصّب باللون الأزرق أنامل صبيةٍ في سنّ الاقتراع تُسدَّد لمحياها العيون، تستبدلك بالمنكير ودعوة صديقاتها في دعّةٍ لشرب العصير فيقبلن خفافاً كطيور الجنة، ويتفضل قابضك بمنحها ما تبقى منك (طرادةً وريالاً وأشلاناً وتعاريف وفريني).
تمتلئ يد الصبية وتنجلي أسنانها البيضاء كحب الفيتريتة إثر ابتسامٍ ضحوك، تمتلئ يدها بأحشائك المعدنية، ويمتلئ وجهي بحبِّ الشباب!.
وكان عهدك سخياً ومليحاً أحنّ لتلك المناخات التي أنتجت (يا رشا يا كحيل) و(الحالم سَبَانا)، المناخات التي تتقدمها عبارة “اتفضّل” قبل معانقة الكفِّ بالكف. أشتاق في عهدك طعم الكركدي في بوفيه المحطة الوسطى، ومذاق الباسم عند علي السيد، ويمتدّ حنيني للجندول والرفيرا وكوب كوبانا ويوسف الفكي والأتنيه.
اللهم أحسن إليه بقدر ما أحسن للرجال الأفاضل الذين استدفأ تحت منشآتهم العملُ المُنتِج، وبقدر ما خضَّر الزرع وثمَّن الضرع، واستجلب من السعادة لأمهات البنات مُهوراً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى