العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني!

 

الواثق كمير يكتب :

 

الحلقة (4)

 

قوانين سبتمبر وحقوق المواطنة

إذا شعر السودانيون، غير المسلمين في كل أرجاء البلاد، واقتنعوا تماما بامكانية المنافسة بمطلق الحرية وعلى قدم المساواة، على كل المواقع السيادية العليا في البلاد وبدون أى قيود دستورية، أفلا يمثل الإصرار على تطبيق قوانين ذات أصول دينية في شمال السودان عائقاً ونوعاً من الموانع المؤسسية والثقافية والإجتماعية، الذي يصبح معه الحق الدستوري لغير المسلمين في المنافسة على هذه المواقع، خصوصاً منصب رئيس الجمهورية، مجرد مظهر خادع وأمنية طيبة؟ ومن ناحية أخرى، ألا يتناقض إخضاع السودانيين غير المسلمين إلى أحكام الشريعة الإسلامية على المستوى القومي، بينما يتم تطبيق قوانين مدنية في بعض الولايات، بموجب مقترح مطروح لتفادي إلغاء القوانين اتحادياً، مع مبدأ مساواة مواطني البلد الواحد أمام القانون؟ هل من المُساواة أمام القضاء في شيء أن يتمُّ  تطبيق قوانين غير إسلامية على المواطن من جنوب كردفان أو النيل الأزرق، بينما يُحاكم بقوانين سبتمبر وتُطبق ُّعليه العقوبات الحدية حينما يكون في الخرطوم أو في دنقلا؟ جدير بالذكر، أن إشارة أصحاب هذا الرأي إلى فيدرالية القوانين في شمال أمريكا لا علاقة له بواقعنا، فسلطات الولايات الأمريكية أو المُقاطعاتالكندية في التشريع المحلي لا يميز بين مواطني أي ولاية أو مُقاطعةفي التنافس بنفس القدر من المساواة في الوصول إلى رئاسة الحكومة الفدرالية، بينما التشريع على أساس الدين يقلل من فرصهإن لم يبعد تماما غير المسلمين من المنصب الأول في البلاد،فكيف للمواطن غير المسلم أن يكون رئيساً لدولة مدنية تحاكم مواطنيها على أساس تشريعات لدين مواطنين آخريًّن؟  ثم كيف لقاضٍّ غير مسلم، وصل لمنصبه بمبدأ حقوق المواطنة المتساوية، أن يجلس على منصة القضاء ليحاكم المواطنين بالشريعة الإسلامية؟ بذلك، أفلم تمنحه الحق باليد اليمنى وتنزعه عنه باليد اليسرى. وفوق ذلك كله، ألا يمثل هذا التمييز، القائم على دين المواطن، إنتقاصاً بيّنا لحقوق المواطنة وإخلالاً بتكامل عناصر وحدة البلاد، التي لا تقبل الإجتزاء أو الإختزال. فالإصرار على تطبيق قوانين ذات أصول دينية تُمثلُ عائقاً ونوعاً من الموانع المؤسسية والثقافية والإجتماعية، الذي يصبح معه الحق الدستوري لغير المسلمين في المنافسة على هذه المواقع، خصوصاً منصب رئيس الجمهورية، مجرد مظهر خادع وأمنية طيبة.

 

ومن جانبٍ آخر، فمن المهم الاستهداء بتجارب الآخرين من الدول الإسلامية (مصر، تركيا، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورا) في الاتفاق على صيغة تكفل المساواة في حقوق المواطنة، وفي الوقوف أمام القضاء المدني، بغض النظر عن المعتقد الديني للفرد؟ لقد نجحت، على سبيل المثال، الجارة مصر في تحقيق التوازن بين حقوق المواطنة، وتطلعات الأغلبية المسلمة في البلاد. فالتعديلات الدستورية التي أجازها مجلس الشعب المصري في مارس 2007، أبقت على المادة (2) المثيرة للجدل في الدستور المصري، والتي تجعل من “مبادئ التشريع الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع”. وبرغم ما أثارته هذه المادة من شكوك وتخوف وسط الأقباط المصريين، إلا أنها وجدت قبولاً لدى قطاعات واسعة من القوى السياسية المصرية، كما لم تعترض عليها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، طالما ظل كل المصريين، سواء كانوا مسلمين أم أقباطاً، يخضعون لنفس القوانين المدنية الموحدة للبلاد، فيما عدا تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية. وفى لبنان، حيث تقوم السياسة على المحاصصة الدينية-الطائفية، يحتكم كل المواطنين اللبنانيين إلى القانون المدني، فيما عدا قضايا الأحوال الشخصية. وهاهو حزب إسلامى عتيق، حزب العدالة والتنمية التركي، يكتسح الانتخابات التركية الأخيرة، وفق دستور يفصل بين الدين والدولة وجيش مكلف دستوريا بإنفاذ العلمانية، بدون أن يتشكك أحد في، أو ينتقص من إسلاميته!وتكفي نظرةواحدة لما هو عليه الحال من حولنا في العالمين الإسلامي والعربي، لتُكشِفُّ أن بضع دول في عدد أصابع اليد تقوم بتطبيق أحكام الشريعة في القانون الجنائي.

 

تسببت هذه القوانين في إزكاء وتأجيج نار الحرب بالبلاد، وأفضت إلى إنشطارها، والآن تحول دون التوصل إلى سلام، فلماذا، ولمصلحة من تبقي عليها حكومة الثورة؟

 

إلى الإسلاميين: لماذا نُبقي على قوانين سبتمبر؟

ولو ذكرت في مقدمة المقال بأني لن أتعرض للجدل الفقهي، ولكني سأتعرضُّ إلى دفوعات ومواقف مجموعات الإسلاميين المتعددة، كُلٍّ بحكم المدرسة الفقهية التي يتبعها، من قضية إلغاء التشريعات الدينية. الحقيقة، أنه ليس كل الإسلاميين على قلب رجل واحد من هذه القوانين، بل أن بعضهم يؤيد بشدة العودة الى القانون الجنائي المدني. فقد أجريت بواسطة صديق ليًّ من الإسلاميين استبياناً في شكل سؤال طرحناه على عينة محدودة: ما هو رأيك في الإبقاء على، أو إلغاء قوانين الشريعة، فكانت الإجابات متنوعة، إن لم تكن متباينة، وتُعبِرُّ عن مذاهب ومناهج مختلفة. فبطبيعة الحال، من جهة، هناك من يمكن أن نصفهم بالتيار “الصمدي” أو “العقدي”، أو السلفيون عموما، من الملتزمين بأن الدين عقيدة ودولة، لا ينفصمان عن بعضهما البعض. وبذلك، فحدود الله ثابتة بدليل القرآن والسنة، وهي جزء لا يتجزأ من التشريع الإسلامي، من ناحية قانونية (شرعية) إسلامية، وعلى المجتمع المسلم تطبيقها كاملة غير معدلة أو منقوصة. باختصار، تشدد قيادة هذا التيار على أن الحدود الشرعية من عند الله تعالى لخير الأمة في الدنيا والآخرة، ولا مجال حتى للنقاش حول هذا الأمر. ربما، عبرت عن هذا التيار المجموعات التّي خرجت للتظاهر في 17 يوليو، في ما أسموه بجمعة الغضب، بعد صدور التعديلات الطفيفة على بعض مواد القانون الجنائي لعام 1991 (التي للمفارقة يرى بعض الإسلاميين أن هذه التعديلات أكثرُّ مقاربةُّ للشريعة من القوانين الأولى)، تحت شعارات: لا تلاعب بالدين ولتحريف حدود الله، وأن الإسلام خط أحمر دونه الدماء والأرواح. يميل دعاة هذا التوجه لمحاولات زرع تخوف غير مبرر بإشاعة أن إلغاء قوانين الشريعة هو بمثابة دعوة ضد العقيدة والدين وستفضي إلى غضب شعبي يهزُّ أركان الحكم الانتقالي. هذا ما توقعته نفس هذه الجماعة في أعقاب عودة مولانا الميرغني من أديس أبابا، في نوفمبر 1988، بعد توقيع اتفاق مع جون قرنق بتجميد قوانين سبتمبر، ولكن خيّب ظنهم وكذبَّ أمنياتهم الاستقبال الجماهيري غير المسبوق لمولانا الميرغني في مطار الخرطوم، والذي أغرى البعض لمحاولة اغتياله لاحقاً. قد يقول قائل أن الوضع الآن مختلف، فذلك الاستقبال وقع في وقت لم يتشرب فيه بعد جيل الشباب الحالي بالقيم الإسلامية وانحاز لتشريعات الدين، وهذا منطق هزمته ثورة هذا الجيل كله التي لفظت المشروع الحضاري وحكم الإسلاميين الإنقاذيين برُمته.

 

وكما ذكرت، بالطبع لن أخوض في جدلٍّ فقهي، وأكتب هذا المقال بصفتي مواطن وليس لكوني مُسلِماً، وكل ردي أن هذا ليس بموضوع المقال إنما جوهر سؤالي هو: من هو، أو ما هي الجهة، التي تملك الحق في تطبيق حدود الله وشرعه، وما مصدر أمر تكليفها بهذه المهمة؟ في رأيّي، إن الذينيعاودهمالحنين لمحطة الدستور الإسلامي، إنمايتصرفونمنمنطلقأنالدولةالسودانيةالراهنةهيدولةدينية، مما يدخلهم في مغالطةبشأنفكرةأثبتتالتجاربعدمجدواهافيمجتمعاتمتعددةالأديان، لاتفيدأصحابهاولنتفيدالسودانفيشئ. فإنسيطرةالدولةأوهيمنةأجهزتهاالرسميةعلىالدين،إعتقاداً وممارسةً وطقوساً ومؤسسات، حسبتجاربالسودان،لم تُقدمُّ للدين شئياً، بلأصبحتوسيلةلتسويغالقهروالاضطهادالسياسيباسمالدين، علىأنعدمالإعترافبالدولةالدينيةلاينكرحقأيمجموعةدينيةفيأنتعبرعنأفكارهاسياسياً،وأنتنشئأحزاباًلذلكتعكسعبرهاأفكارها،طالمااحترمتهذهالأفكارالتعددالسياسي،وطالمالمتلجأإلىمصادرةالحقوقالأساسيةللآخرين،وطالمانأتبنفسهاعنإحتكارالدينمنأجلإضفاءطابعمقدسعلىالممارساتالسياسية،وكثيرمنهالاتبيحهاالأديان نفسها.

 

يتفرع من هذا المنظور موقفُّ آخر مفاده أن إلغاء قوانين سبتمبر سيتسبب في إفساد وفساد المجتمع، بإباحته للخمور والأفعال الفاضحة والرذيلة. وهذا حديث ممجوج لا سند له، وتُكذبه الحقائق في أرض الواقع المعاش للمُواطنين السودانيين المسلمين. فمقارنة بسيطة للأوضاع الاجتماعية والأخلاقية، في كل مناحي الحياة، وخاصة بعيون رجل سبعيني مثلي عاصر وشاهد، تُكشف كيف تبدلت الأحوال إلى سؤٍّ حتى أصبح السودانيون أنفسهم يتندرون على حالهم. أقصد التوضيح بأن القانون الجنائي المدني لم يٌفسدُّ مُطلقاً الحياة في السودان، ولم يمس الإسلام كدين ولم تستهن بقيمة ومبادئه، كما لم يتحول مسلمو السودان، في ظل قوانين الشريعة، إلى مسلمين أرفعُّ شأناً أو أكثرُّ إسلاماً.إنما أقول لمن يدعي بأن هذا هو شرع الله لا يقبل الحياد تجاهه، وأن الدعوة لالغاء قوانين سبتمبر تناقض الإسلام في بلد أغلبيته مسلمة، أفلم يكن السودان بلداً مسلماً أو أن أهله لم يكنوا بمسلمين قبل 13 سبتمبر 1983؟ وهل نادى مسلمو السودان طوعياً وشعبياً بهذه التشريعات، ولو حتى عن طريق برلمان منتخب؟

 

وثم حجة أخرى للإسلاميين المنافحين للإبقاء على القوانين، أنها لن تُلغى إلا بالإرادة الشعبية الحرة عن طريق برلمان منتخب خلال عملية حرة ونزيهة! فلماذا إذن؟ فابتداءً، هل جاءت هذه التشريعات عبر هذا الطريق، أفلم يُعلنُّنميري نفسه في“تجمع للسودانيين في زيارة إلى أبي ظبي في ضيافة الشيخ زايد رحمه الله بأن “الشريعة دي خازوق غزيته أنا ولن يزيله أحدُّ غيري”. كثيرون من أهل السودان أصبحوا في حيرة من ذلك الإعلان عن الشريعة الخازوق، فالخازوق هو عمودُّ مُدبب الرأس كان يوضع في دُبر المُذنِب ليخرج من أعلاه عقاباً له. أوترون معشر المسلمين ما الذي فعل بكم نميري، وبِمن بايعه منكم من الإنس والجن؟” (منصور 2018، نفس المصدر، الجزء الثالث، ص198). وأيضاً، قد يقول أحد فلتخضع القضية إلى استفتاء شعبي، فهل هي جاءت عن طريق استفتاء؟ وهل تستفتى الشعوب في قوانين أم في دستور يضمن حقوق المواطنة المتساوية؟ويضيف هؤلاء الإسلاميين أن الدعوة إلى العودة لقانون 1974  تتناقض مع حجة الداعين لها، إذ أن هذا القانون هو نفسه قانون نميري الحاكم المستبد. وهذه قراءة غير صحيحة، فالعودة إلى قوانين 1974 ليس مقصود بها القانون في حد ذاته، بل المعني هو الرجوع إلى التشريعات الجنائية والعقوبات المدنية، كما أننا بذلك نعود لإرث ممتد من التشريعات والقوانين، مع توفر المراجع والتجارب والفطاحلة من أساتذة القانون والفقه الدستوري، وعلى استعداد لإعداد مسودة قانون جنائي مدني جديد يُرفدُّ أحكامه هذا الإرث. بالعكس، فإن المنهج والنهج الصحيحان يُمليانِّ على حكومة الانتقال، بآليتها التشريعية المتوفرة، بحكم الوثيقة الدستورية، إلغاء قوانين سنها نظام جائر ومن ثم تقرر الحكومة المنتخبة إن رغِّبت، وفقا للإرادة الشعبية الدستورية،في التشريع لهكذا قوانين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى