تحوّلت حياتهم من نعمة إلى نقمة

تحوّلت حياتهم من نعمة إلى نقمة

 

الخرطوم- أم سلمة العشا

بين ليلة وضحاها، ابتسمت الحياة في وجه عددٍ كبيرٍ من الشباب، هرع من مختلف مناطق السودان بعد أن أصابتهم “حمى الذهب”، بعضهم حالفه الحظ وأصبح على حين غرة من أصحاب (الملايين) نتيجةً للتنقيب عن الذهب في صحاري الولاية الشمالية بالتركيز على (أرض الأحلام) محلية (أبو حمد) بولاية نهر النيل، بجانب انتشار “الدهابة”  في عددٍ من ولايات السودان، إذ لم يتوقّع شباب تجاوزوا العشرين من العُمر، قادمين من مُختلف أصقاع السودان القاصية والدانية أن تمضي بهم الحياة للأفضل، وتحقيق ما حلموا به في فترة وجيزة دُون تعليمٍ، ورغم أنّ التنقيب عن الذهب أصبح حُلمَ الكثير من البسطاء الذين تُحاصرهم هُمُوم الحياة وجفاف الصحراء، إلا أنّه ساهم بقدرٍ كبير في تفشي عدة ظواهر خطيرة، على رأسها عَمَالة الأطفال في التعدين التقليدي وتعاطي المُخّدرات والخمور، وهجرة المُزارعين والرعاة لأراضيهم وحيواناتهم للعمل في مجال التعدين التقليدي.

روايات مختلفة

روايات مُختلفة يحكيها الشباب “الدهابة” في حُصُولهم على كيلوغرامات من الذهب، كانت سبباً في تغيير حياتهم بعد أن أصابهم اليأس والإحباط طالما عجزوا عن تحقيق آمالهم العراض، في ظل مُستقبلٍ مجهولٍ، وتتردّد الأنباء التي كانت سبباً في توافد وهجرة الشباب إلى تلك المناطق الوعرة وخلال فترة زمنية قصيرة، حتى أصبح التنقيب عن الذهب حلمَ الكثير من الشباب، ومن ثمّ تدافع الآلاف للتنقيب غير مُبالين بالموت المحتوم إما عطشاً في الصحراء أو انهيار منجم تقليدي على رؤوسهم أو حتى بلدغات العقارب والثعابين أو حتى الموت البطئ لاحقاً نتيجةً لتعرُّضهم للمواد الكميائية “الزئبق” و”السيانيد”، فكان أن حُظيت مناطق التعدين بشهرة عالمية وأصبحت قبلة يرتادها حتى الأجانب من دول مجاورة رغم طبيعتها الصحراوية الجافة، ولاحقاً انتعش سوق العمل بها رغم الطريقة التقليدية، فكان الرضاء والقبول مظهراً لافتاً في سبيل الحُصُول على المال مَهما كانت النتائج الوخيمة لهؤلاء الشباب نتيجة المُعاناة.

في بعض الأحيان يُحالف الحظ بعض المُعدِّنين ويظفرون بنحو (5 – 10) كيلوغرامات أو ربما أكثر، ولكن أحياناً تنتهي التجربة بمرارة، إذ تتحوّل آبار التنقيب إلى خيبات أمل إن لم تتحوّل في أحيان كثيرة إلى مقابر جماعية، لانهيار العديد من آبار الذهب نتيجة التعدين الأهلي والسباق المحموم الذي يشهده هذا القطاع.

رؤية

كثيرون كانت لهم رؤية مُختلفة، بسبب ترك الآلاف من الشباب مهن كانوا يعملون بها وجدوا أنّ عائدها ضعيف مُقارنةً بالتعدين التقليدي، بعضهم من حَمَلة الشهادات الجامعية، هجروا وظائفهم والتحقوا بـ”الدهابة” كما يحلو تسميتهم.

الجيلي الصديق أستاذ بإحدى المدارس الخاصة في الخرطوم تحدث لـ(الصيحة)، عن تجربته مع التعدين التقليدي، وأوضح أنه لحق بالدهابة مُؤخّراً عام 2018 بمنطقة “قبقبة” بمحلية أبو حمد، وأشار إلى أنّ التعدين في بدايته مع دخول أجهزة الكشف عن الذهب عام 2009 وحتى 2015، كان مجدياً لتوافر الذهب السطحي دون الحوجة إلى حفر المناجم التقليدية  المعروفة عند الدهابة بـ “البئر” ، وأشار إلى أنه في تلك الفترة عثر شباب على كميات كبيرة من الذهب غيّرت حياتهم بصورة كاملة، وأصبحوا من أصحاب الملايين، وتحوّل بعضهم إلى رجال أعمال بشراء آليات ثقيلة “حفارات” و”بوكلن” و”قلابات” وطواحين، أصبحوا يُؤجِّرونها لـ”الدهابة” بالساعة، فضلاً عن امتلاكهم لحيازة “مربعات” تعدين فتحوها للباحثين عن الذهب بـ”النسبة”، وأوضح الصديق أنّه هجر مهنة التدريس نظراً لعائدها الضعيف ولا يتعدى الراتب وقتها “2000” جنيه في أفضل حالاته، وأشار إلى اعتماد أغلب المُدرِّسين على الدروس الخصوصية، وقال: “الحمد لله عثرت على القليل من الذهب بعد مُعاناة لا تُوصف كادت أن تودي بحياتي”، وأضاف: “لكن من عائد التعدين تمكّنت من شراء – ركشة -ـ أعمل بها حالياً”.

ورغم ذلك يذهب آخرون إلى أنّ عمليات التعدين أنعشت الأسواق، لكنها جاءت خصماً على الزراعة بعد أن هجرها الشباب، وتأكيداً لذلك، فقد أُجريت العديد من الدراسات حول التعدين تمثلت في انتشار ظاهرة التعدين التقليدي بالسرعة الفائقة مِمّا أدى إلى بُرُوز كثيرٍ من المشكلات.

آثار سلبية

أظهرت دراسة ميدانية للمُعدِّنين بمنطقة أبو حمد (ولاية نهر النيل)، عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتعدين التقليدي في السودان، أعدّها الباحث عبد الله المعـز أبكر أحمد، كشفت عن كثير من المُشكلات تتمثل في عمالة الأطفال، وتهريب الذهب، وظهور المشكلات الصحية والبيئية التي تؤثر على مُختلف جوانب الحياة سواء كان في أوساط المُعدِّنين أنفسهم أو على مُستوى المُجتمعات المحلية رغم المنافع المادية للتعدين التقليدي، إلا أنّه وفي نفس الوقت كانت له جوانبه السلبية على أنشطة اقتصادية أخرى كالزراعة والرعي وهي المهن الرئيسية للبلاد.

وقطعت الدراسة بأن التعدين التقليدي له أهمية كُبرى سواء كان على المُستوى المحلي أو القومي، حيث أصبح واحداً من أهم مصادر جلب العُملات الأجنبية للبلاد، وتشغيل عَددٍ كَبيرٍ من الشباب .

أمرٌ كارثيٌّ

لم يتوقّع أحدٌ أن ينتهي حال بعض الشباب المُعدِّنين بمناطق التعدين للموت، فكانت الممارسات الخاطئة، والتقاليد الدخيلة على مُجتمع نهر النيل سبباً في أن يؤول الأمر إلى كارثة، فقد شكّل تواجُد الشباب بمُختلف مناطقهم وبيئاتهم مخاطر جمّة، ورغم اتفاقهم على الكسب والحُصُول على معدن الذهب النفيس، ولعلّ ما راج مؤخراً عن حادثة زواج المثليين في سوق (الطواحين) 10 كيلو متر شمال مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل رغم اختلاف الرويات، إلا أنّ المُؤكّد وجود مكان يرتاده المثليون “قهوة” معروفة في سوق المُعدِّنين بالمنطقة، وتعد واحدة من  المظاهر السالبة والمُكتسبات الدخيلة على إنسان المنطقة وآحالت حياة هؤلاء الشباب من نعمة إلى نقمة.

وشهدت المنطقة جريمة قتل، كادت أن تؤدي إلى فتنة كبيرة بعد أن راج أنّها وقعت على خلفية حادثة “زواج المثليين” رغم الشكوك في صحتها، لكنها أثارت ردة فعل عنيفة نتيجة لغضب مُواطنين وعمال بالمنطقة، ما أدى إلى وقوع اشتباكات وأعمال شغب وحريق عدد من الدكاكين بسوق الطواحين، وكاد الانفلات الأمني أن يؤدي إلى أزمة وسط مجتمع نهر النيل عقب رفض مواطنين بمنطقة أبو حمد دفن “القتيل” في مقابرهم واضطرت السلطات إلى نقله لمشرحة عطبرة.

أعراف وأساليب

وبحسب ما خلصت إليه الدراسة، فإن التعدين التقليدي ساهم في تحسين الأوضاع المعيشية للمعُدنين والمجتمع المحلي من خلال زيادة الدخل المُتحصِّل عليه من عمليات التعدين .

وأظهرت النتائج أنّ هنالك أعرافاً وأساليب واضحة، متفقٌ عليها يعتمد عليها المعُدِّنون في تقسيم العمل، غير أنّ وجود مخاطر مادة “السيانيد” وملوّثات البيئة الأخرى والتحذيرات المُتكرِّرة من الاستخدامات السالبة لها في تصفية الذهب، كَانت خَصماً على إنسان تلك المناطق المحفوفة بالمخاطر، إذ أنّ عدداً من الشركات العَامِلَة في ذات المجال تُمارس أعمالها على مرأى ومسمع من الجهات الحكومية التي فشلت في وضع حدٍّ لتلك لتجاوزات ما أدى لارتفاع مُعدّلات الخطر في عدد من الولايات التي أضحت مُهدّدة بأضرار مادة “السينايد” التي تسبّبت في موت الإنسان والحيوان والبيئة المُحيطة بهما، وبهذه المحاذير يُشكِّل “السيانيد” أكبر خُطُورة على حياة أهل مناطق التعدين في السودان، إلا أنّ ما حدث من مخاطر ومسالب اجتماعية أخرى، استنكرها مجتمع أبو حمد بشدة، فهي تفُوق بكثيرٍ مخاطر “السيانيد” ومُلوِّثات البيئة الأخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى