Site icon صحيفة الصيحة

حَالة تَستحق الدِّراسة..!

“السؤال هو الإنسان.. والإنسان سؤال لا إجابة”.. يوسف زيدان..!

(1)

بَعض الجُمل والعبارات ارتبطت في الأذهان بتوجُّهات مذهبية أو سياسية مُعيّنة من خلال سُلُوكيات بعض الوصوليين الذين يُقدِّمون صوراً سيئة لحقيقة المُنتمين إليها.. هذا المعنى وظّفه الكاتب المصري علاء الأسواني في رواية شيكاغو، بإسقاطه رأساً على شخصية الدكتور (أحمد دنانة) الوصولية التي تتمسّح في الأيقونات الدينية كعلامة الصلاة والمسبحة التي لا تُفارق اليد، وتُخاطب من حولها بجُملٍ دينيةٍ مأثورةٍ، وتستخدم كلمات حق في مواضع الباطل.. في عالم الواقع يَستشهد البعض من أمثال (دنانة) بالآيات مبتورة ومجتزأة عن سياقها.. ويقول الناس كلمة (الله) للتعبير عن إعجابهم أو انبهارهم بشيءٍ أو فكرة أو معنى أو شخص ما، وقد يقولون بها في مواضع لا تُليق بها فليس كل موضع إعجاب حلال!.. أما جُملة (ما شاء الله) التي تقال لدرء العين ونفي شُبهة الحسد فقد نَجَحَ شبابٌ وكهولٌ كُثُرٌ في إفراغها من مُحتواها النبيل وتصنيفها ضمن جُمل الغزل التي لا يملون ترديدها على مسامع النساء في المُواصلات وعلى أرصفة الشوارع.. وبفضل هؤلاء أصبحت اليوم جُملة (ما شاء الله) من جُمل المشاغلة الرسمية في السودان..!

(2)

شخصية (عطية الساعاتي)، المُرشح الدائم لتمثيل دائرة كفر أصالة في مجلس الشعب في المسلسل المصري (سكة الهلالي) والذي يفاجأ لأوّل مرّة بوقوف مرشح آخر في وجهه – هو بطل المسلسل يحيى الفخراني – فَيُجرِّب كل الأساليب المُمكنة لهزيمة خَصمه في الانتخابات.. تلك الشخصية ما هي إلا تجسيدٌ كاريكاتوريٌّ لسُلُوك بعض المُرشّحين السياسيين في عالمنا الثالث.. حيث تتنكّر الديكتاتورية في زي الديمقراطية تنكُّراً رديئاً على طريقة أفلام الكرتون (ينجح القط توم في خداع الفأر جيري بحيلة الشارب المُستعار) بينما يكون الوضع عندنا أكثر شفافيةً، فالناخب والمُرشّح على حدٍّ سواء يلعبان على المكشوف.. إما على طريقة “عطية الساعاتي” الذي كان يقسِّم الورقة المالية من فئة العشرة جنيهات إلى قسمين، يعطي الناخب نصفها قبل الفوز، والنصف الآخر يتسلّمه الصوت المأجور بعد الفوز مُباشرة.. وإما على طريقته الأخرى في الوصول إلى أصوات الناخبين من مدخل آخر هو دغدغة عواطفهم الدينية.. فإظهار العواطف هو أساس النجاح في لعبة الانتخابات السياسية عندنا، بينما قد يتسبّب أدنى قدرٍ من العاطفة في القضاء على مُستقبل المُرشّح في مُجتمعات العالم الأول.. وهنا بالضبط يكمن جوهر الفرق بين الناخب المُستنير سياسياً والناخب المُستلب عاطفياً..!

(3)

اختفاء الطبقة المتوسطة بمعناها الحقيقي – وشُيُوع تبعات القرارات الاقتصادية الفاشلة، والمواقف السياسية الانفعالية، وانحشار هذا المُجتمع في خانة الاستهداف – أدّى إلى تغيير مناهج فكرنا الجمعي، وأثّر سلباً على مُسلّماته السويَّة.. الكاتب يتملّق القارئ بانتمائه إلى طبقة الكادحين وإن لم يكن منهم، وكأن فكره المضيء لا بُدّ أن يأتي نتيجة احتراقه في أتون الفقر والعوز.. والأعمال الدرامية تتملّق المُشَاهِد الفقير بإصرارها على قصر المُشكلات التي تعالجها التمثيليات والمسلسلات على مُشكلات الطبقة الكادحة.. حتى باتت سمة المُبدع هي التفاخر بالفقر.. الغالبية العُظمى في بلادنا الفقيرة يعتقدون أنّ الأغنياء بلا مُشكلاتٍ حقيقيّةٍ وأن مُجتمعهم المخملي بلا قضايا جديرة بالجرح والتحليل.. فالثري أو الغني أو مَيسُور الحَال هو في اعتقاد سوادنا الأعظم شخص غير جدير بالعطف، والكل يميلون إلى تصديق أيِّ سُوء يقال عنه.. والغريب أن ذات الفكر الذي يربط الإبداع بالفقر يحترم الثري في إطار كونه صاحب قوة ومنعة مادية وكفى.. أما الإبداع فبحسب عقلنا الجمعي هو جنة الفقراء التي لا يدخلها الأغنياء.. وهي على كلِّ حالٍ – وبكل أسفٍ – حالة فصام مجتمعي تستحق الدراسة..! 

Exit mobile version