كاودَا بين زمنيْن

تراجيديا السياسة تبدّت في زيارة الدكتور حمدوك إلى كاودا بجنوب كردفان، جرّدوه من كل شيء،  من سلطته كرئيس وزراء، ومِن حراسته وجيش بلاده وطيران الدولة وكل مظهر لسيادة البلاد ورمزيتها، تركوه بلا عَلَم ولا نشيد وطني ولا عزة وكرامة السودان التي لم تُدنّس من قبل بهذه الصورة المُزرية، لقد مرّغ الوسطاءُ الأجانب الذين رتّبوا الزيارة وخاصة الجانب الأمريكي، مرّغوا كبرياء بلادنا في التراب، وأهانوا شعبها تحت دعاوى سياسية باطلة لا تساوي شيئاً حين تُضاهى بما سلبوه من رئيس الوزراء  الذي ظنّ وحكومته السَّنيّة أن مجرد هذه الزيارة ستأتي بالسلام محمولاً على طبق من ذهب تحفّه هالات الطمأنينة والسلام ..

كيف قَبِل رئيس الوزراء وحكومته أن يُشتَرط عليه أن يذهب بلا أي مظهر من مظاهر سيادة البلاد ووحدتها وسلطانها، بلا جيش أو شرطة أو حرس أو رمزيات وطنية أخرى، وأن يفرضوا عليه ألا يُرافقه والي الولاية التي تتبع لها المنطقة، لم تؤكد كل مظاهر الزيارة وأمريكانها أن كاودا جزءٌ من الوطن، وأن رئيس وزراء يبسط سلطته وسلطان الدولة على كلّ شبر منها، فمهما تذرّعت حركة عبد العزيز الحلو بدعاوى أنها منطقة مُحرّرة وأسرفت في الشّطط وفرضت إرادتها على حكومة السودان، ما كان ينبغي للحكومة أن تكون في هذا الموقف الضعيف سياسياً وسيادياً ..

مع كل هذا، فإن السؤال الموضوعي الذي يستلزم الإجابة عليه من الحكومة ورئيسها، هو ما العائد والفائدة السياسية من هذه الزيارة إذا كانت حركة عبد العزيز الحلو قد انتزعَت كل ما تُريد، ولم يرجع رئيس الوزراء ووزراؤه بأي مكسب واضح وملموس؟ وهل الزيارة تضمّنت خطوة جادّة نحو السلام بلا شروط مُسبّقة أم إن عبد العزيز الحلو كرّر ذات اشتراطاته لعلمانية الدولة وملأ أذن رئيس الوزراء بتهديده الذي سبق الزيارة بأيام (إما دولة علمانية أو نذهب كما ذهب الجنوب). والخطأ أن جنوب السودان لم تكن الحرب فيه منذ أغسطس ١٩٥٥م، حول علمانية الدولة ولا يحزنون، ولا الحركة الشعبية الأم عندما تمرّدت وأعلنت عن نفسها عام ١٩٨٣ وعندما انتقلت الحرب إلى مناطق  جنوب كردفان في ١٩٨٦ كانت تُنادي بالعلمانية واللادينية السياسية، كل أسباب الحرب والتمرّد هي التهميش السياسي والتخلّف التنموي والمظالم التي وقعت على مواطني جنوب السودان وجنوب كردفان وبقية المناطق التي تأثّرت بالحرب …

إذا كان الغرضُ من الزيارة التي رتّبها الأمريكيون لكاودا دعم وتمرير أجندة حركة عبد العزيز الحلو، والالتفاف على منبر جوبا بهذه الكيفية السّمِجة، فإن موقف  الحكومة بعد هذه الزيارة سيكون أكثر تعقيداً في مُواجهة الحقائق الموضوعية المُتعلّقة بمشروع السلام ومراحله المختلفة ومسار المفاوضات التي كانت تجري، فهل سعت حكومة حمدوك إلى حرق مرحلة مفاوضات جوبا بالقفز إلى الشوط قبل الختامي، والتسليم بقيادة الحلو والاعتراف به وبعاصمته الجديدة وعلم حركته ومارشاتها العسكرية ونظامها الإداري والتعليمي ونسق الدولة (الكنتون) التي بنتها في كاودا وتريد فرضها ومدها إلى كل جنوب كردفان؟

من الواضح أن الدولة ممثلة في مؤسساتها السيادية وقواتها النظامية وأحزابها السياسية وقواها الوطنية تنظر إلى هذه الزيارة نظرة متقاربة مع الريبة والشك في توقيتها ومضمونها وما تمخّض منها، باعتبار أن ما قدّمته حكومة حمدوك من تنازُلات ستكون معولاً لهدم الدولة ونظامها وهي زيارة فاشلة إذا قورنت بزيارة سابقة قام بها نائب الرئيس السابق في ٢٠١٢ بالطيران الرئاسي  بوجود عبد العزيز الحلو نفسه، يومها كان هناك كركون الشرف السوداني وعزفت فيها الفرقة ١٤ السلام الجمهوري، وكان يوجد كامل مظهر السيادة وافتتح فيها مسجد كاودا ومقر أمانة الحكومة ومدارس ومنشآت خدمية ومنزل الوالي آنذاك أحمد هرون ومنزل الحلو كنائب والٍ، وكان علم السودان مُرفرِفاً فوق سماء كاودا وافتُتح اللقاءُ بالقرآن الكريم، ولم تظهر أعلام الحركة الشعبية… فرق كبير بين زَمَنيْن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى