حول حل الاتحادات والنقابات ..

 

أخطأت السلطات الرسمية كثيراً بقرارها الأخير بحل الاتحادات والنقابات المهنية  واتحاد أصحاب العمل واتحاد نقابات عمال السودان، ونقابات المنشأة، وكل الأجسام والهيئات التي تقوم بالعمل النقابي والمهني، وهو قرار تعسّفي يُخالف القوانين المحلية السارية وكل مبادئ حقوق الإنسان وما تأسست عليه العهود الدولية ومواثيق حقوق الإنسان التي تمنع منعاً باتاً التدخل في حرية التنظيم النقابي.

وبما أن هذه الاتحادات والنقابات ابتداءً تقوم على الاختيار الحُر، وهي منظمات غير حكومية لديها نظُم وأسس واضحة وضوح الشمس تمنع التدخّلات السياسية، ولا تخضع للقرارات الحكومية المُتعسّفة والجائرة، وهي جزء من نسيج إقليمي ودولي مُتعارَف عليه، يعكس تطوّر العمل المدني العالمي والتعاون الدولي في صياغة مفاهيم واحدة وتعاضُد مستمر لأصحاب المهن الواحدة وتنظيماتهم التي تدافع عنهم وتتبنى قضاياهم، فإن العهد الدولي بينهم والتشريع والقوانين التي تنظم هذا العمل، تجعل من التضامن والعمل المشترك والتكاتُف والانخراط في تنظيمات إقليمية ودولية هو واجب لازِم وجدير بالاحترام بين كل الدول الأعضاء في هذه الهيئات والمنظمات الدولية التي تجعل من العمل المشترك والنسق الواحد أمراً مًقدساً لا يُمكن التفريط فيه، والمساس بالمنظمات والهيئات النقابية والاتحادات منطقة مُحرّمة لا يمكن السكوت عليها ..

أخطأت السلطات بقرارها هذا الذي يضع السودان في موقف لا ينبغي أن يكون فيه، خاصة مع الادعاء بأن أبواب الحرية والديمقراطية قد انفتحت على مصراعيها، فالاتحادات والنقابات هي كيانات تُمارِس دورها وِفق نظام انتخابي صارِم حدّده القانون وشرعنته تجربة طويلة ذات امتدادات إقليمية ودولية، ولا تتم انتخابات الاتحادات والهيئات النقابية إلا بحضور ممثلي الجهات العدلية والقضائية ومراقبة المنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة، وأي إخلال أو تدخل من جانب الحكومات والسلطات الرسمية يدخل هذه النقابات والاتحادات في دائرة الشك في نزاهتها وأعمالها ويقود إلى تجميد عضوية البلد المعني في المنظمات الإقليمية والدولية، لذلك نشأت الاتحادات والنقابات في بلادنا مهما كان الاختلاف والتقديرات السياسية حولها، في جوٍّ مُعافى ومُبرّأ من شبهات التدخل المباشر، وحتى النظام السابق إذا تم اتهامه فإنه لم يكن ليجرؤ على التدخّل المباشر أو إملاء أية اشتراطات أو معايير أو إجراءات تفقد العملية الحُرّة المُتّصلة ودمقرطة الحركة النقابية طعمها ومذاقها وشرعيتها، وكان يملك من الذكاء السياسي ما جعل تلك العملية تسير في الاتجاه السليم بالتنافس الحر وتقليل المطاعن، وليس عيباً أن تتنافس القوى المختلفة حول النقابات والاتحادات ما دامت صناديق الانتخاب تهب الفوز للأكثر تنظيماً والأوسع قاعدة والأقدر على خوض غمار النزال الانتخابي .. ولا يمكن إلغاء أي نقابة أو اتحاد أو تغيير قيادتها إلا بانتهاء آجالها، وعقد جمعية عمومية لانتخاب قيادة جديدة ومجالس تنفيذية مُنتخبة، فذاك هو السبيل الوحيد فقط ..

لذلك، فإن محاولة السلطات الحكومية واللجنة التي كُوّنت لتطبيق قانون تفكيك النظام السابق، ربط الاتحادات والنقابات سياسياً وكأنها هي من واجهات وآليات النظام السابق، عمل غير دقيق وفكرة غير صحيحة وتوجّه لا يمُتُّ إلى الحقيقة بصلة، وفيه تَجَنٍّ وقصور واضح في فهم إلى أي مدى وصلته حرية العمل النقابي، ولِمَ كان قانون الاتحادات المهنية نفسه، فالنقابات والاتحادات أسبق في تاريخها من الحكومات في السودان، ولها ماضٍ نضالي طويل، لم تكُن السياسة قد نبتت أسنانُها بعد، فاتحاد الصحفيين مثلاً تأسس في العام ١٩٤٦ ويومها لم تُولَد الأحزاب، والصحافة كمهنة سبقت الأحزاب السياسية، ورواد العمل السياسي السوداني خرجوا من رحم الصحافة ثم بان عقوقهم للرحم الذي وُلِدوا منه ..

نحن نعلم أن الجهات السياسية التي أعدت قانون تفكيك النظام وأقحمت فيه النقابات، هي جهات لا تقوى على المواجهة والتنافس الانتخابي، وتُريد فقط السيطرة على الاتحادات والنقابات بالتعيين الحكومي ومن الجهات الرسمية، وهذا يتناقض تماماً ويُخالف كل القوانين ومفاهيم وأسس العمل النقابي والمهني، فهُم أجسام طفيلية ضئيلة الحجم والتأثير تعيش فقط في كنف السلطات وتستخدم صولجان الحكم للوصول إلى النقابات والاتحادات من دون استحقاق حقيقي أو تنافس انتخابي حر، فاليسار السوداني معروف عنه بكل فصائله أنه منبوذ وهزيل لا قاعدة له في القطاعات المهنية، وهو أضعف من أن يتقدم تحت الضوء وتحت سقف الحرية المُطلَقة ليُنافس في الانتخابات، وسيلتهم الوحيدة هي استخدام السلطة للتضليل والتشويش وتسخيرها للوصول إلى أهدافهم، مُتناسين أنهم بذلك يُرسون قاعدة فاسدة في دائرة العمل النقابي يرفضها العالم كله، وما البيانات الرافضة بقوة للإجراءات التي تمّت والصادرة من المنظمات المهنية والاتحادات الإقليمية والدولية إلا دليل على أن المسعى خائب لا رجاء فيه والإجراء باطل من أساسه، وما بُني على باطل فهو باطل، وسيظل نضال الحركة النقابية السودانية باقياً وطويلاً ولا هوادة فيه حتى تندحِر هذه الأفكار المسمومة ويُنقَّى الثوبُ من الدّنَس ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى