قراءة في قانون التفكيك …

 

ليس المطلوبُ هنا إثارة جدل حول قانون تفكيك نظام الإنقاذ والتمكين، ويقال ان القانون وُلِد مُقطّع الحنايا والأوصال،  لم يتخلّق من أمشاج وزارة العدل، بل كان حملاً خارج رحمها، فهو خديج غير شرعي من نطفة فاسدة لمحامٍ ماركسي عدمي مُتوتّر السيرة والسريرة، ظل يحمل أغبانه وأحقاده لسنوات طويلة، ولم يزل غارقاً في بؤس أحلامه الشائهة.

دفع المحامي بمسوّدته إلى الوزير الذي لم يدخله حتى إلى مفرزة وزارته لتشذيبه وتحسينه وتغيير صياغته التي طغت عليها مسحة سياسية صارخة لا تليق بقانون، بقشوره وزعانفه وبثوره ودمامله، وأتى به يتمطّى إلى مجلس الوزراء الذي بدوره أجازه على عَجَل ثم أحاله للاجتماع المشترك مع المجلس السيادي .

القانون بالطبع  ليس من الأولويات في برامج الحكومة لا في توقيته وأوانه المُعتَل، ولا في غاياته السياسية التي لا تتّفِق مع السعي لاستنجاز تصالُح وطنيٍّ عام، وسلامٍ مستدام، ولو كانت هناك غاية واحدة ومَرمَى من ورائه هي أن الحكومة كما ادّعت  تُريده بصورة عاجِلة حتى تلحق به مجازاً ومعتمداً زيارة رئيس الوزراء إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتقدمه قرباناً يُقرّبها زُلفى من البيت الأبيض والكونغرس لتحصل على صكوك غفران تُرفَع بها البلاد من القائمة الأمريكية لرعاية الإرهاب، هذا من ناحية، الناحية الثانية، أن الحكومة مُغرَمة إلى حد الجنون بالتزلّف السياسي وتُظاهِر نفسها للعرّابين في الغرب بأنها تقوم بواجبها على أكمل وجهٍ في مُحاربة الأصولية والإسلام السياسي، فها هي تبرَع في استئصال شأفتهم بالقانون وِفق المُخطّط المرسوم لها على كراسة المُوجّهات والسياسات والاشتراطات الغربية .

عندما تلعب حكومةٌ ما هذا الدور، فإنها تنتَشي بثمالتها الفائتة لكلِّ حد، فتختال كما الطاؤوس وتتراقَص كغانية، وهي وَلهَى بصنيعها الفريد، وتُقدّم نفسها مثل أبرع (سترابتيز سياسية) تخلع الغُلالات الرقيقة ولا تستحي أمام ابتسامات المُتفرّجين من الفرنجة الجُّدُد .. وتنسى في حالئذٍ مسؤولياتها في محاربة الغلاء ووطأة الفقر وتوفير الخبز والوقود وكبح جماح الأسعار ومُعالجة مشكلة المواصلات وتحقيق السلام .

على كلٍّ، القانون يحتاج من أهل الفقه القانوني، رأياً وموقِفاً حاسماً، ليس لمعارضته، إنما لتبيان أن العقلية التي صاغته، عقلية لا تمُتُّ إلى دنيا العدالة والصوابية القانونية والسياسية بشيء، فهو قانون مُخالِف بِنصّه وروحِه للوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية الحالية، ويَتعارَض جُملة وتفصيلاً مع كل المعايير الدولية وأسس العدل، ومن المُخجل والمُخزِي أن نتحدّث في مُقاربته بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمواثيق الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكل القوانين التي تتناول مسائل الحرية السياسية، أو تستَنْكِف من العسف وممارسة القهر السياسي.

ولم يسبق في تاريخ السودان أن وُجِد قانونٌ مثل هذا القانون الذي يُخالف ما سبقه من قوانين كانت تقوم على حُجيِّة الأمر القضائي الصادِر عن محكمة أو إجراء إداري في المُخالفات التي وُضِع من أجلها هذا القانون .

ثم أن القانون نفسه مُعِيب في صِنعته الصّياغية وفِكرته الجوهرية التي يقوم عليها، فهل هو قانونٌ لإبعاد عناصر الإنقاذ من الخدمة المدنية وهياكل الدولة المُتخَمة باللوائح والقوانين التي تُحاسِب وتَفصِل وتُنهي الخدمة وِفق الضوابط والقواعد القانونية، أم هو محاولة حثيثة لتفكيك الدولة نفسها، لأنه للأسف أن عبارة التفكيك ـــــ وهي كما قال أهل القانون ـــ عبارة لا مكان لها من الإعراب القانوني ولا تُستخدَم في سياقات القانون، تُستخدَم هذه العبارة لتفكيك المؤسسات والأجهزة والإدارات وإنهاء فاعلية دورها وحلها، ولا تُستخدَم للأفراد وفصلهم أو إبعادهم، فالأفراد لا فاعلية لهم إذا كانت منظومتِهم كنظام حاكم قد انتهت، وليس هناك أي وجود فيزيائي ماثل أمامنا لنظام حكم يُراد تفكيك دولته العميقة أو مؤسساته، فالموجود حالياً هي مؤسسات الدولة السودانية والتي لا يمكن اختزالها في أفراد يُشتَبه في ولائهم لنظام سابق..! فليس من المناسب الحديث عن تفكيك مزعوم لمنظومة غير موجودة أصلاً، أو توجيه المدلول اللفظي لمعاقبة الأفراد .

الشيء المُحيّر والذي نخجل له من وزارتنا التي حبلت سفاحاً فولدت قانوناً، أنها اعتمدت قانوناً ألغى دور القضاء في تطبيقه، والقضاء أهم ركن من أركان الدولة وتحقيق العدالة، فالقضاء لا وجود له إطلاقاً في هذا القانون، وكذلك النيابة العامة التي صُودِر دورُها ونُزِع منها، فتكوّنت وِفق هذا القانون المَعِيب لجنة تقوم مقام النيابة العامة، وأُعطيت سلطات (إلهية).

لا تستند اللجنة على شيء، ليس هناك أي تعريف مُحدّد لها ولا المعايير التي تُختار بها ولا ضوابط لعملها، ولا توجد أية مُحددات لكيفية وقف تنفيذ قراراتها أو مراجعتها، هي محاكم تفتيش جديدة، محاكم القرون الوسطى ستكون أفضل بكثير منها إذا كانت بهذه السلطات التي لا تتوفّر حتى لرأس الدولة ..

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى