Site icon صحيفة الصيحة

لو أطبقت راحتيك على زهور!!

“أ”

وحده عدنان الصائغ… الشاعر العراقي الذي ابتلعته أرصفة الصقيع في السويد في أقصى شمال أوروبا، كان يُعبّر عن هذا الرماد الذي تثاقل على الوجه والجفن والفؤاد.

أيها المطر..

يا صديقي المغفل

حذارِ من التسكّع على أرصفة المدن المُعلّبة

ستتبدد مثلي.. لا محالة

قطرة.. قطرة

وتجف على الأسفلت

لا أحد يتذكرك هنا

وحدها الحقول البعيدة

ستبكي عليك

وكأن المنافي والمدن البعيدة والمعلبة.. هي التي ستبقى دائماً مثل علامة الجرح السوداء، تحفر لنفسها على جلد الزمن.

ولكأن الشمس التي عافت الأفق الغربي وشفقه الكئيب، ترقص في لهب الرحيل المر، مثل شهقة الموت الأخيرة تخرج من جوف وروح يائسة.

“ب”

في صباح شاحب مكتحل بالرماد .. تسللنا ثلاثة تلاميذ بعد أن أخذنا دفتر «الإسبتالية» من وكيل المدرسة، هربنا مسرعين من مدرسة نيالا الشرقية الابتدائية، والسنوات السبعين من القرن الماضي تلفظ أنفاسها، ضحى يوم شتائي مغبر تعلوه غبرة تراب ومصير، عبرنا في مسيرنا المضطرب بخطوات متعجلات واجفات خائفات، خوراً صغيراً شرقي المدينة عند حافته سور عالٍ وضخم لكلية معلمات نيالا، حفرنا حفرة عميقة في الرمل.. وسّدناها حقائب كتبنا المدرسية، والحقائب مصنوعة من قماش الدمور الخشن لوث لونها الحبر المجاني الذي كانت تفيض به محابر المدارس موضوعاً على أدراج التلاميذ، ثم توجهنا وسط صفير الرياح وسافية التراب، نحو محطة السكك الحديدية بنيالا وكان القطار ساعتئذٍ يستعد للرحيل وقد تمطى طويلاً من أول المحطة جنوباً حتى نهايتها شمالاً يلامس مصنع نسيج نيالا، وتموج المحطة الكبيرة بأعداد لا حصر لها من المسافرين والمودعين والشغالين والباعة والمتسكعين.

وأغنية مليئة بالشجن كانت تصدر عن صوت شجي.. من متجر المحطة الذي تفوح منه رائحة حلوى طحنية العلب الشهيرة، وربما كان أحد العابرين أو الراحلين يردد لمحمد الثبيتي:

مرّوا خفافاً على الرمل

ينتعلون الوجى

أسفروا عن وجوه من الآل

واكتحلوا بالدجى

نظروا نظرةً

فامتطى علسُ التيه ظعنهمُ

والرياح مواتيةٌ للسفرْ

والمدى غربةٌ ومطرْ

أيا كاهن الحي

إنا سلكنا الغمام وسالت بنا الأرض

وإنا طرقْنا النوى ووقفنا بسابع أبوابها خاشعينَ

فرتلْ علينا هزيعاً من الليل والوطن المنتظر:

شُدّنا في ساعديك

واحفظ العمر لديك

هَبْ لنا نور الضحى

وأعرنا مقلتيكْ

واطو أحلام الثرى

تحت أقدام السُّليكْ

نارك الملقاة في

صحونا حنّت إليك

ودمانا مذ جرت

كوثرًا من كاحليك

لم تهن يوماً وما

قبّلت إلا يديك

سلام عليكَ

سلام عليكْ

اختبأنا في مكان قصي في انتظار قرع ناظر المحطة الجرس، وسماع صافرته الرنانة الطويلة، ورمى علامة السيمافور وإطلاق صافرة القطار المدوّية استعداداً للرحيل نحو الخرطوم، وهي رحلة يقطعها قطار نيالا في أربعة أيام بلياليها.

الباعة الجوالون وبنات صغيرات يبعن الفول السوداني المقلي والمسلوق وحلاوة السمسمية وتسالي حب البطيخ، وبعض فاكهة الشتاء، وكانت رائحة الجوافة تعبق المكان، وكان بعض بائعي المصنوعات السعفية والجلدية والحلوى والبسكويت وحجارة البطارية وغيرها من مستلزمات السفر يتبارون في المناداة والصياح بسلعهم المستعدة للسفر كما المسافرين، كان هؤلاء الباعة يصطخبون ويتلاججون ويتصارعون، تختلط أصواتهم بعبارات الوداع وبكاء النسوة المودعات وجلبة حمل الأمتعة والحمّالين والنشالين وعمال الدريسة والهدير المتقطع للقاطرة الديزل من طراز الهتاشي العتيق.

“ت”

عندما حانت اللحظة الحاسمة، وأعطيت كل الإشارات للقطار بمغادرة المحطة ومدينة نيالا، خرجنا بأجسادنا العجفاء وارتعادات البرد تهزنا كما الأغصان المبتلة بماء الشتاء. ومن مخبئنا مثل صغار فراخ الطير زغب الحواصل وكمرتكبي خطيئة تسارعت خطواتنا .. تركنا القطار يتحرك ببطء.. رويداً.. رويداً.. حتى عدونا مهرولين، لهثنا معه كنا نشعر بأنينه تنوء عرباته بما تحمل.

تسلق صاحباي سلم الدرجة الثانية الخالي والباب موصد، ومدّا لي أيديهما لألحق بهما.. سرت في نفسي وجسمي رعشة غريبة وأنا أركض والقلب يخفق والذهن يشتعل صحت بهما.. ماذا سنأكل؟ أين سننام.. إلى أي مكان سنذهب..؟؟

ردّا عليّ بصياح بائس.. نحو الخرطوم.. هيّا.. اركب اجر.. “حصّل”» .. تاهت النداءات وردّدت عجلات القطار صدى الصياح والصراخ.. وأنا أتردد وسرعة القطار تزيد.. وأفلتت يدي من آخر يد ممدودة.. وتعثرتُ وسقطتُ على الأرض وصاحباي يلوّحان لي ومرت بي آخر عربة «عربة الفرملة» ومضى القطار سريعاً.. يطلق صافراته.. ويختفي بعد انعطاف مودعاً مدينة نيالا.. وانحنى في لفة ودائرة واسعة من الشمال للشرق. وانطلق نحو رحلة طويلة .. طويلة… نحو الخرطوم.

“ث”

تحركت من مكاني خائفاً وجلاً حذراً أترقب، أجري لحظات وأمشي أخرى.. لم أعد للمدرسة، ذهبت للمنزل، وفي الحي سرى خبر هروبنا كالنار في الهشيم وافتضح الأمر، وكان عقاباً رهيباً في المدرسة والمنزل وتلك قصة أخرى.

منذ تلك اللحظة ابتلعت الخرطوم صديقيّ. كانت ذكراهما في بداية الأمر طازجة وفقدهما نابضاً وحياً خاصة أننا كنا ندمن التسكع على الرصيف الأسمنتي الضيق لسينما نيالا، نردّد أغاني الأفلام الهندية ونحفظ عبارات شامي كابور ودهرا مندرا وأمتياب بشان وهيما ماليني وزينات أمان وفينود خان وأمجد خان وسبنا ونقلد حركات الممثلين ونجوم السينما في ذلك الأوان.. ونحاكي عبارات غامضة لأفلام الوسترن لجون واين وترانس هيل وجوليانو جيما وبد سنبسر وكينث ستوود. وانقطعت أخبار الصديقين وباءت عمليات تفتيشهما واللحاق بهما بالفشل، ويئس أهلهما من العثور عليهما مثل آلاف الأطفال الذين كانوا يهربون في تلك الأيام من الأقاليم البعيدة للخرطوم عاصمة البلاد المدهشة يومئذٍ، ليكونوا الرافد الأول والقديم لظاهرة المشرّدين والشماسة التي ظهرت في أوجها في ثنايا ومعاطف السبعينيات من القرن الماضي.

“ج”

ثم مضى أيضاً قطار العمر، ومرت السنوات وكبرنا ولم يعد الصديقان فقد صارا مجرد أسماء جامدة في أقبية الذاكرة وملامح باهتة في قاع الزمن. نسيهما الأهل والأصحاب والأتراب والأمكنة، وتحولت الحياة في اتجاه آخر.. وغطّى غبار السنوات على كل شيء.. وطويت صفحات.. وأقفرت ديار بعدما كانت قديماً دياراً.

لكن صوت القطار وصورته وأيديهما المدودة والملوّحة ورجاءات أصواتهما ما زالت باقية تلوح كالوشم على ظاهر اليد، وكنَحْتٍ فوق الصخور.

وعندما كتب لنا العيش والبقاء في الخرطوم، واقتادتنا الحياة ومعاشها من حضن نيالا الدافئ لجلبة العاصمة وضجيجها وجرفنا سيل الحياة بعيداً عن مرتع صبانا وأحلامنا الصغيرة، لا ألبث أن أستحضر مشهد الوداع الأخير في محطة السكك الحديدية بنيالا، وذلك الثلاثاء الحزين من أيام الشتاء قبل بضعة وثلاثين عاماً، وما زالت صور المشردين في طرقات الخرطوم والأرق المُر في أقداح الليل والصباح الذي لا يرتشفه أحد.. والقمر المتسكع وحده في السماء لا يناديه صوت.. تذكرني بوجهين لصبيين من موطني ابتلعتهما الخرطوم في أحشائها كسعلاة خرافية تأكل لحوم الأطفال .. غفا الليل وما غفوا .. ذهب القمر شريداً وحيداً.. وما عادوا.. وصوت الفيتوري المرن يقول وهو يصيح:

خارج من غيابك

لا قمر في الغياب

لا مطر في الحضور

مثلما أنت في حفلة العرس والموت

لا شيء إلا انتظار مرير

وانحناء حزين على حافة الشعر

في ليل الشتاء الكبير

ترقب الأفق المتداخل

في أفق لم يزل عابراً في الأثير

ربما لم تكن

ربما كنت في نحلة الماء

أو يرقان الجذور

ربما كان أجمل لو أطبقت راحتيك على باقةٍ من زهور!!

Exit mobile version