Site icon صحيفة الصيحة

بين الملك فهد والمشير سوار الذهب

بعد أن أعلن الجيش في السودان تكوين مجلس عسكري انتقالي في رجب 1405 – أبريل 1985م – وكانت بذلك نهاية فترة حكم الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميري رحمه الله – فوجئ رئيس المجلس العسكري الانتقالي المشير عبد الرحمن سوار الذهب – رحمه الله – بالحال المأساوي الذي أفاده به وزراء (المالية والطاقة والزراعة ومحافظ بنك السودان) عن الوضع الاقتصادي في السودان الذي يمكن تلخيصه في : (1/ خلو بنك السودان من النقد.2/ كثرة الديون.3/ مجاعة وتصحّر تضرب أجزاء من البلاد واستقبال الموسم الزراعي بدون تجهيزات وآليات.4/ الوقود الموجود في البلاد لا يكفي إلا لستة أيام فقط(.

وقد أفاد المشير سوار الذهب أنه اغتمّ وحزن حزناً شديداً بعد معرفته بالوضع بالتفصيل من الوزراء المذكورين ومحافظ البنك المركزي ، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى جاء الفرج من الله تعالى.

هي رواية عجيبة، وقصة جميلة، وموقف فيه دروس وعبر، كان المشير سوار الذهب يكرر القصة كثيراً، وقد حاولت ببحث (عشوائي) تتبع سرد المشير سوار الذهب لهذه القصة؛ فوجدته قد نشر في عدد من الصحف وفي سنوات مختلفة؛ ذكر القصة في عدة مناسبات وفي لقاءات رسمية وغير رسمية، معجباً بها، حتى إنه قبيل وفاته بأقل من عامين ذكرها بالتفصيل في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مجلس كبير، فقد أحسن وأجاد في الوفاء، والوفاء خلق الأنبياء والنبلاء.

والأفضل أن أنقل مقتطفات لما ذكره المشير سوار الذهب في سرد هذه القصة مما هو منشور على الشبكة في مواقع بعض الصحف وفي بعض التقارير.

*في صحيفة الحياة بتاريخ 11 مارس 2005م أجرت الصحيفة لقاءً مع المشير سوار الذهب ، ومما جاء فيه قوله: (… فإني عندما تسلمت السلطة اجتمعت في المساء مع الوزراء للتعرف على الأوضاع، فأعطوني صورة قاتمة ومظلمة، وقال وزير المالية إن الديون كثيرة علينا، وتحدث وزير الزراعة عن ضرورة مواجهة المجاعة والتصحر، والأهم من ذلك وزير الطاقة الذي قال: ” لدينا بترول يكفي مدة ستة أيام فقط” ، فبتُّ في ذلك اليوم مهموماً لا أرى المخرج، وفي اليوم التالي كنت في المكتب وجاءني السكرتير قائلاً: سعادة السفير السعودي يريد أن يقابلك، فقلت: فليتفضل، فجاءني السفير بتلك الرسالة القصيرة العظيمة من الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – : “أرسل مندوبك لتحقيق مطالبك”. وقد كانت الأجواء السودانية مغلقة فأرسلت طائرة خاصة حملت وزراء: البترول والصحة والزراعة ومحافظ بنك السودان لمقابلة الملك فهد، وكان وقت وصولهم بعد المغرب، ومع ذلك سمح لهم بمقابلة الملك فوراً، وقال : “سنتقاسم الخبز مع السودان”. وساهم الملك فهد بمبلغ 60 مليون دولار، وقد فرج علينا هذا المبلغ كثيراً من الهموم وأزاح الكثير من الديون”.

*وفي صحيفة الشرق بتاريخ 15 أكتوبر 2016 تقرير عن حفل تكريمي بمجمع الفقه الإسلامي في السودان جاء فيه :

(…وقال سوار الذهب: إن الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله – قال إبان فترة رئاستي للسودان في العام 1985-1986 : “إن إمكانات المملكة تحت تصرف السودان وأنه سيقسم الخبز مع الشعب السوداني”، مشيراً إلى أن المملكة وفَّرت كل الاحتياجات للسودان الذي كان يعيش أزمة حادة تمكن من خلال ذلك الدعم من عبور تلك المرحلة الحرجة…).

*وفي صحيفة المدائن الإلكترونية بتاريخ 11 أبريل 2015م تقرير عن حفل للسفارة السعودية في الخرطوم ورد فيه ما يلي :

(وتحدث في الحفل المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق … مشيداً بالدعم الذي تقدمه المملكة والمؤازرة المستمرة للسودان، مؤكداً أن هذا النهج من قبل المملكة ليس بمستغرب من أناس خصهم الله بخدمة الحرمين الشريفين، ومناصرة المظلومين وإغاثة المحتاجين.

وقال: حينما توليت السلطة في السودان في العام 1985 كانت خزينة بلادنا تعاني من مشاكل اقتصادية حرجة، ووضع صحي بائس، فوجدنا الدعم المالي العاجل، وقال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله – مقولة لن أنساها وهى : “إننا سنتقاسم الخبز مع السودان” ، وعبر سوار الذهب عن شكره وتقديره للمملكة حكومة وشعباً، على الدعم والوفاء والمؤازرة على مر السنيين). وأكتفي بهذه النماذج الثلاثة لضرورة الإيجاز.

قلتُ : إن من يتتبع حكاية المشير عبد الرحمن سوار الذهب لهذه القصة يجد أنه كرّرها كثيراً خلال فترة ثلاثة وثلاثين عاماً هي المدة بين وقوعها وبين وفاته – رحمه الله .

وفي سرده الذي أشرت إليه لهذه القصة بالمدينة النبوية قبل أقل من عامين – تقريباً – في مجلس رجل الأعمال الشيخ يوسف العطير تفصيل أكثر؛ إذ ذكر – رحمه الله – أن الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – أجابنا في كل مطالبنا التي كانت في أربعة جوانب، فلخلو البنك المركزي من النقد دعمنا بمبلغ 60 مليون دولار أودعت في البنك المركزي، ولأن الوقود وقتها كان يكفي لستة أيام فقط أُرسِل لنا الوقود الذي يكفينا، مع إرسال المعدات الزراعية، والدعم بأشياء عينية  كالأجهزة والأدوات الطبية والأدوية والدقيق وغيره ، وكرّر المشير سوار الذهب في المجلس المذكور قول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز : (سنتقاسم الخبز مع السودان).

والعِبَر في هذه القصة كثيرة ومتنوّعة، والرسائل التي تتضمنها عديدة، ولا أجد نفسي بحاجة إلى أن أعلق عليها ؛ إذ في ظني أن الإخوة والأخوات الكرام قرّاء العمود ليسوا بحاجة لأن أعلق عليها لكريم معانيها وجميل عبرها ووضوحها، إذ هي من أحسن ما يقصّ ويروى.

لكني أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة!! فإنه بعد أربعة وثلاثين عاماً يتكرر المشهد في السودان بمجلس عسكري انتقالي آخر، يأتي في ظروف اقتصادية حرجة وصعبة، فتقف المملكة العربية السعودية، بلاد الحرمين الشريفين في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله – ذات الموقف الذي وقفته في عهد الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – و”الشيء من معدنه لا يستغرب”، ويأتي الدعم المادي والمعنوي من بلاد الحرمين الشريفين للسودان ويخبر الملك سلمان بأن السعودية تقف مع السودان لتجاوز جميع أزماته، ويصرح ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – بأن دعم المملكة للسودان غير محدود.

وبمثل هذه المواقف عرفت المملكة العربية السعودية في أعمالها ودعمها المتواصل لبلادنا – مما لا يخفى – ولغيرها من بلاد المسلمين؛ انطلاقاً من مبادئها وأسسها التي قامت عليها ولمكانتها بين المسلمين ورعايتها لمقدساتهم.

وأما المشير سوار الذهب فقد كان وفيّاً بحديثه المتكرر عن هذه الواقعة وغيرها، ولعله فيما نحسبه فعل ذلك عملاً بالتوجيه النبوي الكريم من أنه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس، فشكر للمملكة الشكر الجزيل مبتهجاً وفخوراً ومعتزاً، شكراً وعرفاناً وشهادة بالمعروف ووفاءً بالجميل ، وإن الوفاء بالجميل لهو خلق نبيل حث عليه الشرع الكريم، وهو هدي النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو أعظم الناس وفاءً، وفي صحيح السنة أخبارٌ كثيرة تشهد بوفائه عليه الصلاة والسلام، ويأتي في مقدمتها وفاؤه لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، في حياتها وبعد مماتها، حتى غارت منها بعض زوجاته أمهاتنا رضي الله عنهن جميعاً، ووفاؤه للأنصار رضي الله عنهم حتى قال لهم: ( لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ …) ، وقال عنهم ما قرّت به أعينهم وفاءً لنصرتهم ومحبتهم لمن هاجر إليهم ووفائهم بالعهد في النصرة وإيثارهم وكريم خصالهم وسمو أخلاقهم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار).

وهكذا هم أبناء هذا المجتمع الكريم أوفياء، ويشكرون للمحسنين إحسانهم، فجزى الله بلاد الحرمين الشريفين حكومة وشعباً الجزاء الأوفى وزادهم توفيقاً وتسديداً وتقبل منهم جهودهم في خدمة الإسلام والمسلمين.

Exit mobile version