“سأخون وطني”… هذيانٌ للرُّعبِ والارتحال.. !

“أ”

كيف تحمي وطناً..؟ وتُحافظ عليه، وأنت في موقف يُماثِل موقف السادات، الذي قال ذات تراجُع وذات هزيمة…”إن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا”!!

كيف تحمي وطناً وأنت بلا كف ورمح؟!!

الأوراق كلها ليست في يديك، اللعبة الجارية أمامك تشبه نفخ شعلة النار من فيه مليء بالبنزين فتتناثر النار وذراتها وحبات البنزين في الهواء.

كل الأوراق ليست لديك وأنت تمارس القمار السياسي، تُخاطر بكل شيء، وتُلقي على الطاولة كل ما لديك.. ولو كان وطناً.

إذا تعلّمت أن تمضغ الشعارات وتفوّقت في نسج عباءة الدعاية السياسية المضللة، فأنت بحق في طريق يتوهّج مثل سراب الصيف، وراءه الظمأ وبعده الفراغ.

كل الخُطب التي كانت عن كبرياء ليس بعده وهن، وعِزة لا يُقاربها ذُل، واستكانة لا يكشطها رفض، هي بعض فقاعات الصابون التي تنزلق في الهواء ثم تتبعثر متلاشية في العدم.

لماذا تشعر وأنت تتقيأ كل ما حفظته في ذاكرتك ووجدانك، إن بعض الرحيق كان خُدعة من زهرة الحياة التي تعيشها ومن برتقالة السياسة التي ضحِكتْ وعرْبدَتْ ثم تدحْرَجتْ بعيداً عنك في كفِّ آخر وحِضن ذاك.

“ب”

أن تحمي وطناً، ليس هو ذلك الاستمتاع الطفولي بحوافِر الوهم تجري في دمك وخلاياك، كالخيول المُطهّمة العِتاق، وتتلذّذ بعلكة التاريخ تتأرجح بين أضراسِك، كأنها تستجيب إلى نداءٍ عميقٍ نابعٍ من ومضةٍ تبرُق في السماء البعيد تصوِّر لك الآفاق العِراض بمزركشات الأحلام ومزخرفات التمنِّي.

كل الذي صدقته وأنت تحترق في الطريق الطويل وتحترف التآكل والزوال، كما يقول الفيتوري، كان مجرد هذيان لمحموم بالحرية والثورة والانعتاق والخروج خارج دائرة الزمن الأمريكاني العنيف.. لم يكن إلا ضياءً وانطفأ، ولم نكن نحن فيه ومعه، إلا لقاءً وافترقنا كالفراشات على نار الهوى جئن إليها واحترقن بعدما برقن وتوهّجن بأجنحتهن في لهب التحدي القصير..

وأنت تُمعِن في المدى الممتد في ناظريك، وصوتك مثل ينبوع أعمى، يضل طريقه لآذان أخرى لا تسمع، لا ينتظرك وقتك ولا زمنك ولا وطنك، فالذئاب التي تتحفَّز لتلتقط أشلاءك وتشرب من دمك، هي ذاتها وبأنيابها التي كانت تبتسم لك وتُلاطفك… أنت في ساحة الاحتراق وحيداً عارياً إلا من ثياب الملك العريان .!

“ت”

قبل أن تخون وطنك، وأنت مُتخَمٌ بالشعارات الكبيرة، هل كنتَ معنا نقرأ في دفتر قديم عبارة ذكية تشوي القلب كماء النار والحريق، لمحمد الماغوط من كتابه: “سأخون وطني”:

” شعارات نقية يُطلقها أناس أنقياء، وبلمح البصر تصبح كثياب عمّال الدباغة مع أن الكل يدّعي النظافة وتعقيم اليدين..”

لقد أعطيت للنحر عنقك، ولمناقير اللئام جروح جسدك الكُثُر ودمك المتخثّر كأن الجراح تسلمك لجراح، والطعنة على ظهر الوطن تهب حياتك للريح.

كل الشعارات التي قاتلت من أجلها، كانت مجرد ثياب تتحول في برهة وقت وغمضة عين وانتباهتها لمعاطن الدبّاغين تفوح منها رائحة الجلد المُباع.. وجلود الأوطان لا تتعلّم الدبغ وحز السكين والتشفية إلا حين تعوي الذئاب وأنت بلا رمح ولا سيف ولا دخان ولا جواد.

عزيمتُك المطلية من طين المصانَعة والمُداراة، هي التي خذلتك وجعلتك ضيفاً على موائد اللئام، ورهينة بين يدي المرابين والسماسرة واللصوص وقطّاع الطرق “يركلك الهُدى حيناً ويلقفك الضلال”، كما قال الشاعر الكبير الراحل فرّاج الطيب:

لقد كاد بيتك ووطنك من كثرة ما تطأه من أرجل وأحذية القادمين من وراء البحار بشروطهم وانتفاخهم الأجوف وتدخُّلاتهم في شأنك، مثل وبَر السجادة البشرية التي تُفرَش للغادي والرائح، كما وصف صاحب “سأخون وطني”!!

“ث”

لعلك تُوقِد بعض المصابيح أمامك في سردابك الطويل، أأنت كالأعمى الذي يحمل سراجاً حتى لا يصدمه الآخرون، يرونه ولا يراهم…؟!! أم أنت تلهث مثل الأحصنة التي أدمتها السياط وحديد السروج، فهل تُحلِّق في الفضاء المظلم المجهول بجناح الكآبة؟

قد نسمعك تُغنّي وتنشد ذات يوم مع الشاعر الموبوء بالحزن والحنق والشجن:

كل تلك الغيوم كانت في بلادي

وتلك الطيور كانت في سمائي

وذلك الضباب في قريتي

وذلك الياسمين على شُرفتي

وذلك الهديل على نوافذي

وذلك الحنين في ضلوعي

وكل ذلك التصميم في ملامحي

وكل ذلك الغبار ورائي

وكل تلك الآفاق أمامي

وكل تلك البطولات في ذاكرتي

وكل ذلك الدخان في مضاربي

وكل تلك المَهابة في مجلسي

وكل ذلك الحداء في حنجرتي

وكل تلك الملاحم في دفاتري

كل ذلك رأيته

وأنا أبيع ما تبقّى من أصابعي

لأحد السيّاح من تجّار الآثار والعاديات ..!

“ج”

أن تحمي وطنك.. يعني أنك قادر على محو الدمامِل من وجهه وجلده، وتستطيع أن تُبعد السرطان عن خلاياه، وتدرعه بدرع من العزة والصمود ولا تُبالي، وتنشر فوقه راياتك الشهباء، وسِنانك السُّمر تطعن بها خاصِرة مَن يأتيك مُشترِطاً ومُهدّداً وظانّاً أنك رعديد جبان!!!

لا تظن أن كل شيء في أياديهم كما قال السادات، ودفع ثمن ما قال، يجب أن ترفض وترفض وترفض، وما لعبة السياسة في حقيقتها إلا الموقف الصحيح، وليس الكِذبة البلقاء والمُداراة المُمِيتة والضعف المُذِل، هذا الذي تبنيه في زمن الدماء هو بعض تاريخك، فلا تبعه بالثمن البخس.. ولا تقعد محتاراً بين شفرتي المقص، ولا بين أنياب الأفعى الأمريكية التي تريد نهشك، أنت وحدك الآن تُجابه الريح والضغوط، فهل يثنيك ذاك عن الطريق، وهل الصهيل الذي تسمعه سيُعيدك إلى وطنك أم أنك ماضٍ في الدرب الجهنّمي الذي أرادوه لك وفرضوا فيه عليك المسير!.

أنت على باب النهايات الجديدة، ستفتح لك ذراعيها هذه النجوم.. لأن القيد الذي كان في رجليك ومعصمك قد راح وذهب عنك .!

لا تُعطِ من وطنك إلا الذي تُريد، لا أحد يقرر بالنيابة عنك، فكيف تهب للآخرين حريات وآمالاً كِذاباً، يتحكّمون في قرارك وملاذات وطنك، يدخلون تحت غطائك، وبين ثنايا ثيابك.. لا شيء لك… كل الأشياء عليك .!

هنا أنت، حولك هذا الجدار الكثيف

وهذا الهُمود الكفيف وهذا الخمود المُخيف

وحول جنونك تُقعي الملايين حول الملايين.

فوق الملايين.. تحت الملايين.

تمضي إلى الذبح. قطعان ماعز

وتولد للذبح قطعان ماعز

ويعلو بكاء الرجال الرجال،

ويوغل صمت النساء النساء

وفوق صراخ القبور وتحت أنين العجائز

شعوب مُسمّنة للولائم في العيد

من عاش يخسر سر الحياة

ومن مات بات على الموت حرًا وحياً

وما كان بالأمس عارًا مُحالاً

هو اليوم شأن صغير وجائز

فحاذر. وحاذر

زمانك وغدك وغادر

تنحَّ. وغادر

“إلى حيث ألقت”..

فلا الأهل أهلي. ولا الدار  داري. ولا أنت أنت..

وما مِن أواصر

تدور عليك الدوائر

عليك تدور الدوائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى