الغلو وتسييس العدالة!!

مرت ستة أشهر بلياليها تزيد ولا تنقص على ما اختلف في اصطلاح تسميته بالتغيير أو الانقلاب، مع شبه الاتفاق في تحليل أسباب حدوثه ودوافعه.. الحراك الذي دفع ثمنه شباب السودان واُعتقل على إثره بعض قيادات ورموز الإنقاذ تحت تهم عديدة معظمها سياسية، بيد أن تأخير المحاكمات أو إطلاق سراحهم بات أمراً مُحيِّراً ومُثيراً للتساؤلات، بل الأكثر خوفاً هو المحاولات المُتكرِّرة من قوى الحرية والتغيير لتسييس العدالة لخدمة أجنداتهم.. إنّ أسر وعشائر هؤلاء المسجونين أصبحت قلقة على حالهم ووضعهم في السجون الذي يتنافى مع كل أساسيات الإنسانية والعدالة والحرية، بينما صمتت قيادات الحرية والتغيير السياسية بما يشبه المُؤامرة الدنيئة على أمر اعتقال هؤلاء الرجال المُتنافي مع منفستو المرحلة السياسية.
مطلوبٌ موقف سياسي اليوم قبل غداً من قِوى الحرية والتغيير تجاه عدالة وإنصاف هؤلاء الذين يقبعون خلف القضبان، سيما أنّ الإسلاميين ممّن كانوا يُطالبون بالإصلاح ومحاربة الفساد كان لهم دورٌ مهمٌ وبارزٌ في التغيير سواء كانوا من داخل مؤسسات الدولة أو عبر الحراك في الأحياء والمُدن، ويكفي شهوداً على ذلك أنّ مُعظم المُعاقين وشهداء الثورة من أبناء وأسر الإسلاميين الذين تربوا على الجسارة ومُحاربة الظلم، ولكن ما يظهر اليوم من حيازة اليسار لمكاسب الثورة وإطلاق حملته لتصفية الحسابات مع الإسلاميين لن يخدم التغيير إذا اتفقنا أنه تغييرٌ يُفترض أن ينقل السودان إلى مربع جديدٍ فيه “عدالة.. سلام وحرية”، لكن واضحٌ أنّ الشيوعيين وأشباههم يُريدون أن يعودوا بالسُّودان إلى مُعوقات نُهُوضه بالتّمدُّد الصفوي الحديث، الذي ركّز على أبناء الذوات بالخرطوم وأهمل الولايات والأمر الأخطر في الوضع وهو تماهي الحكومة الانتقالية مع الدول الراعية للعلمانية، وتبني حكومة د. عبد الله حمدوك المشروع العلماني صراحاً وهو مشروع إذا أنتج سوف ينتج عُقُولاً مُتشدِّدة وسيعود بنا إلى مربع الخطاب التكفيري المتشدد.
الأحزاب السياسية المُتحالفة على ما يسمى بميثاق الحرية والتغيير مُتناقضة ومُتصارعة ولم تلتفت لهموم الشعب السوداني، حتى تنتج مشروعاً وطنياً عبر مائدةٍ مُستديرة تقود إلى مُصالحة وطنية شاملة بلا مرارات وبلا تصفية حسابات، والمؤسف أنّ أحزاب (قحت) لم تفكِّر لمجرد تفكير في إدارة حوار مع القوى السياسية الأخرى التي تختلف معها فكرياً وسياسياً، بل قامت وبتفكير ومنهج طفولي بتصنيف كل من يُخالف ميثاقهم السياسي، فهو ذيلٌ من أتباع النظام البائد دون النظر لخبرات وكفاءة القيادات السياسية والرموز السودانية والتي أسهمت بشكلٍ إيجابي في الحركة الوطنية عبر التاريخ.
إنّ الذي نعيشه في بلادنا اليوم هو ذات المنهج القديم، وهو انحراف الأطروحات السياسية عن أهدافها وشعاراتها بعد وصول أحزابها للسُّلطة وتحول الأحزاب إلى عشائر وصداقات وشلليات وعوائل مُتحكِّمة، ومن ثم تبدأ رحلة عزوف الجماهير عن اتباعها والانصراف عنها وعدم اعتمادها، وسيلةً للتعبير عن هُمُومهم وقضاياهم.. لم تنجح الثورة في الوصول إلى ثقافة مدنية كاملة ولا حتى جزئية، فالوضع مُتأرجحٌ ما بين الأصالة المقيتة وقليل من الحداثة، وما يدور داخل أحزاب (قحت) وتياراتها وواجهاتها ليس بعيداً عن واقعنا القديم الذي خرج عليه الناس فاقتطفت قوى الحرية والتغيير من تاريخنا السياسي القديم وأخذت منه أسوأه ليس التشفي والشرذمة فحسب، بل في غياب الرؤية الوطنية الجامعة وغياب الكتل والتيارات الرئيسية التي يمكنها أن تصنع واقعاً مختلفاً، ويُمكن أن تؤسس لحياة سياسية نشطة تنتهي إلى تداول سلمي وديمقراطي للسلطة.
وبكل صدقٍ، أن المرحلة تتطلب أن يتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإدارة حوار معهم، فالنظام السابق حتى ليلة سقوطه لم يغلق أبواب الحوار مع الكل وقَد كَانَ يُناقشهم في كل مراحل الحراك والأمكنة حتى داخل الجامعات والسجون، وكان عَشَمَ السُّودانيين جميعاً أن تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الوطن فيها تعافٍ يتجاوز ماضينا الحزين بدراسة واقعنا بشكلٍ عميقٍ وتحليله، وهذا ينبغي أن يسهم الجميع في وضع خارطته وأولوياته، ويرشدوا خطوات الإصلاح، ويستلهم الجميع من مُحاولات الدول حولنا والعبرة بسلبياتها والأخذ بإيجابياتها ومن ملامح بعثنا الإسلامي المتسامح.. أما رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك عليه أن يقترب من أهداف الجماهير ويلحق شعبيته التي بدأت تتناقص، وأخشى عليه أن يفقد قبوله الاجتماعي والشعبي والجاذبية السياسية بسبب الأخطاء المتكررة لأعضاء حكومته وتجاوزات الحُرية والتغيير ولجانها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى