لا أملك في وصلِكَ .. إلا الرياح..!

 (أ) كان صاحبي ساهياً .. عندما مررنا بجيفة السنوات العجاف، وقد علاها شؤم النسيان، لم تكُ في عينيه إلا تلك النظرات العجْلات الحائرات الواقفات على جُرح منسي ينزف من جسد العمر الذي مرَّ، لم تزل عنده بقايا من أوراق سود رسم عليها وجوهاً بمداد شفقي لا يعبِّر إلا عن مأساة، وله نصف ابتسامة كتلك التي تعبُر برهة على وجه صبي حزين بكى عندما رأى الدرب دون الفرح البعيد البعيد .. كان صديقي لاهياً .. يعابث خصلة من ضفائر الأحلام الغابرة، وينتظرني لأتبعه في الدرب اللولبي المُفضي إلى السراب العريض، وكنتُ وقتها أبحثُ عن ذاتي المدفونة تحت رماد الكلام، والدرب في ناظريّ اشتبه، الريح تعوي كما الذئاب خلف شراع الرحيل، لم يكن في يديّ إلا الفراغ وما كفى إلا هو .. لعل شيئاً من تراب الخمول يسكن مُقلة تلك الساعات الطويلة، ونحن نحاول اجترار ذكرى تحتضر في أوبتها العصية ..! 

(ب) أسدل الليل مقلتيه، نامت الكائنات، ونجمة في مدارها نشرت ذؤاباتها الفضية في باحة الفضاء، في تلك اللحظة من ساعات الليل، سمعنا صوتاً كأنه تحدَّر من أعالي السموات البعيدة .. ربما عبر مسافراً بين فجوات التاريخ والأزمنة معزوفاً على مزامير داؤود أو غنته ملائكة في أغوار الحقب والعصور السحيقة، قبل أن يهبط الإنسان أرضه ويسن المعاصي مفارقاً الجنان ..! لا من قبل ولا من بعد، يمكن أن يتسرب مع خيوط الليل مثل هذا الصوت السماوي كالنور يُذاب على أكف البهاء، لم يسمعه لا أنس ولا جان .. هل كان ترتيلاً للقرآن الكريم، أو دعاء وتضرعاً .. أو غناء صوفياً في رقة النسيم؟ لا نعلم!.. صوتاً يترنم .. يغرد .. يصفر صفيراً مهموساً .. يناجي حبيباً صفياً .. لا نعلم .. مجرد صوت .. لكن تحتشد فيه طبقات وأطوار ومقامات ونغمات ودرجات، إذا كان الصوت البشري يقع ما بين (80 هيرتز الى 1100 هيرتز، ) ويتوزع في تعريفات معلومة في علم الأصوات الموسيقي، فإن هذا الصوت يتفوق على كل أنواع وتصنيفات الأصوات ودرجاتها وطبقاتها ومقاييسها، لا يأتي من مصدر واحد يتلف من حولك كما الضياء والظلام، ويغشاك كما الرحمة ويسري في جسدك كما الشفاء وروح الحياة .. 

(ت) كنا نجلس وصديقي .. على حافة من حواف الزمن الحادة، كل شيء في الحياة يُنذر بالسأم والضجر، والطواويس في دنيا السياسة تختال بأذيالها الطويلة الملونة الكذوبة، والببغاوات تتسابق في تكرار ما يُملى عليها، والجشعون الطماعون يلهثون وراء كل رنة قرش، وكل دعي صبغ وجهه بمساحيق النفاق والملق والتبختر على كل رصيف .. كنا نلوذ عندما نلتقي بجلسة هادئة على تلة تطل على وجه مدينتنا الصامتة في ليلها بعد ضجيج النهار، وللمدن وجوه كما البشر تتكدر وتنتشي وتحزن وتضحك وتبكي وتنفجر بالبكاء .. كان وجه مدينتنا كما القناع، واجماً.. جامداً .. صلداً .. سميكاً، لا ندري ما يجري في أقبيتها وطرقاتها وخلف الجدران والأبواب والشبابيك المغلقة في هدأة الليل.. ولا ما الذي تقوله الأضواء الخافتة بلمعانها الذهبي الخفيض.. وكان صديقي يكرع من كؤوس حزنه المقيم تلك، ويتجشأ مرارات الزمن الجامح، عندما سمعنا ذلك الصوت العجيب .. ينبع من كل مكان في الأرض والسماء، ومن حولنا .. 

(ث) لا تتلفت الخلائق وأركان الكون إلا حين يأتيها قَبَس مثل الذي حطَّ بأسماعنا، ينبع ذلك الشلال العرفاني النوراني النوري، من كوخ بائس عند تلك التلة، لرجل من عالم آخر كما كنا نعرف، رجل فقير، مُعدم، ليس بشحّاذ في طرقات المدينة ولا مُتسكِّع بين طرقات السوق، تراه ولا تعلم من أين أتى وأين يذهب، كل ما نعرفه، أنه يؤوب إلى كوخه القصبي كل مساء، هو بلا أهل أو أصحاب، تراه وحيداً منفرداً نهاره وليله، شمعة العشق الإلهي تتقد في محياه حين تراه ليلاً هائماً، وزهرة الزهد والحياة تجدها نضرة على وجهه حين تراه نهاراً كأن الشمس تترصد وجهه لتقتبس منه ضياءها .. كأنه طير من طيور السماء، وحلقة من نمل الأرض العارف، ثمل من كأس يطوف به في حانة الحب الإلهي اللطيف، لا حجاب بينه وبين ذاك البهاء العلوي الفسيح، ولغته إلى الوصال والوصول .. لكن ماذا هذا الصوت ولِمَ..؟ ليس صراخاً كدرويش مفتونٍ مجذوب .. ولا بكاء المُتبتّلين في محاريب الإخبات.. شيء آخر هذا الذي نسمعه .. مناجاة عظيمة تمزق فؤاد الوجود من سكرها .. كمن يحمل قلبه إلى عتبات المحبوب .. 

(ج) في الصباح والشمس تطلق أشعتها الميساء على وجه المدينة، والضحى الأبلج يزحف فوق هامتها، كنا سُكارى من الليل والصوت، نتجول في السوق، فوجدناه، بملابسه البيضاء كدفقة الحليب، هائماً على وجهه .. يبدو في السوق مرحاً وراضياً كمن أودع في حساب بنكي رصيداً ضخماً.. يبتسم للدنيا والناس .. الظمآن الذي ارتوى، كالجائع الذي شبع، كالنملة في كف سليمان يلاطفها بعد أن عرفت وفهمت كلامه .. كالناقة يربت على رقبتها صالح قبل أن تغتالها سكين قومه . كالحوت بعد أن لفظ يونس إلى البر وارتاح بالتسبيح في جوفه.. هدأ روعه. مثل الكبش في يد جبريل فداء لإسماعيل .. وكان قلبه يخفق كقميص يوسف عندما أُلقي على جفنيْ يعقوب.. كُنّا نقف أمامه وهو كالشمعة سالت مدامِعها.. قلت له: يا شيخ.. كنا نسمع أمس صوتك يا لهذا الصوت والقلب .. من أين جاء ؟.. قال : من سفر بعيد قلت كيف كان ومن أين؟.. قال: من قلب سعيد. قلت من أفضل منك ؟.. قال وهو يشير إلى رجل عامل بلغ من العمر الثمانين .. ثم مضى .. واختفى وتركنا أمام الرجل الثمانيني المنخرط في عمله اليدوي بجد واجتهاد وتصميم.. قلت للثمانيني: أراك تعمل وتكد وتجتهد، لماذا مُلئت بالحياة.. وأنت في هذا العمر أترقب في الرزق وتكد لتنجح؟ قال لي وهو يجول ببصره في ما وراء الكلمات: عرفت معنى الحياة فاجتهدت.. وعرفت الممكن فسعيتُ له.. وقال في ما يشبه حديث الفيلسوف: “لعلني بتُّ مقتنعاً الآن، أن المستحيل بات مُمكناً ولو بعد حين”، ثم زمَّ شفتيه برهة وقال: “لشاعر الهند العظيم ربندرانت طاغور، مقولة حاسمة هي التي نبّهتني إلى طريق النجاح. فقد قال: “سأل الممكن المستحيل أين تقيم؟.. فأجاب : في أحلام العاجز .. ومن ذاك اليوم عرفت أن العجز هو أن تتوقف عن التصميم والتفكير وتخلع عنك رداء العزيمة .. وأن الحياة كلٌ لا يتجرأ. فالطريق إلى الله هو طريق الفلاح والنجاح”.

 كان مُحدّثي قد بلغ من عمره الثمانين، كأنه يمشي على لوحٍ من الجمر والسراب، كالسهم يمضي في فضاء الحياة ودروبها يضج بالأمنيات، يخونه جسمه الهَرِم فقد تعب في مراد النفس الكبيرة، لكن من أين تنبع دفقات الحياة الفياضة في روحه ودمه وشرايينه وخلاياه، وقد خرط من عمره زاهي السنوات وأنضرها من وقت طويل، ولم يستسلم لخريف العمر الذي داهمه كأنه يتحدى الأيام والزمن والعمر وحقائق الأشياء .. يبس الجلد على العظام، تغوَّرت العينان في محجريهما، وانطفأ وهج الوجه القديم، وخفت بريق الكلمات الواثقات، فقد كانت كل كلمة شمَّاء عنده كطريدة دهر ردها إلى مراحها وسربها، تثاقلت الخطى والرجاءات، وتثاءبت الكلمات على الشفتين الجافتين، كأنها في خِدر زاهٍ لنؤوم ضحى ذات خلخال.. لكن ثمة مضغة في جوفه تأبَّت على الزمن، وتمردت على العمر، وأشاحت بوجهها عن الضفة الأخرى التي كانت بانتظارها..! 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى