Site icon صحيفة الصيحة

وصافياً كأنه حداء عندليب …!!

” أ”

مثل فراشة عمياء تحترف التآكل والزوال، كانت شجرة الحراز، تبكي وحدها وتجعل من جذعها الضخم الجاف وأوراقها اليابسة قرابين مذبوحة على نصب الخريف الغزير الأمطار، وتتأبى غصونها العالية أن ترنو ولو للحظة واحدة، لخرير الخيران والوديان التي تندلق وتجري بقوة من أعلى جبل مرة متجهةً غرباً نحو زالنجي ودهب شرو ووادي أزوم…

قصة الحراز والمطر والأسطورة البائسة، لا تعبر عن نفور هذه الشجرة العالية من مر السحاب وهدير الرعود وشهقة البرق الخاطف وزخات المطر العنيف…! فما بين هذه الشجرة والسحابة الراحلة ما هو أعمق بكثير من تفسيرات المخيال الشعبي اللطيف وحكايات الأطفال التي بها يتسامرون ويتسلل النعاس لأعينهم البريئة….

تنتشر أشجار الحراز في هذه المناطق من دارفور خاصة في زالنجي وما حولها ووادي صالح ومناطق جبل مرة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً من كل اتجاه يتباعد عن سلسلة هذا الجبل العجيب…

وزالنجي الواقعة بين الجبال والوديان والشجر الكثيف، تفك وحدها الطلاسم وتدري ما وراء غوامض الطبيعة.. وتلك الأيام من منتصف السنوات السبعين من القرن الماضي، تزحف كما جحافل الضوء الشمسي الساطع تشرب الظلال وتستسقي الغمامات المطيرة والزمان ..

“ب”

في خريف بهي صاخب تعوي فيه مزاريب السماء تهدر الرعود، أتى عيد الفطر المبارك في إحدى تلك السنوات، والمدينة الصغيرة الكبيرة الفؤاد تصحو على مطر وتنام على وسادة من خرير، ووادي «اريبو» يعلو تصخابه من بعيد كغول يدوي بصوته فيملأ الأجام والآكام تردد صداه أفاق الفضاء..

الليل يولج في الليل، والنجم يغيب وراء السحاب، والقمر تاه في بيارق الخريف كزهرة ذابلة ومثل عود زوى وجف منه اللحاء..

عند الصباح.. صباح العيد خرجت المدينة في زينتها وصلى الشيخ الشعراني بالناس في الميدان الفسيح بعد أن استعذبت آذان الخلائق من أنس وجان وطير وحيوان، صوت المؤذن إدريس، وحبست السماء ماءها الذي غيض، وجرت على الأرض الصخرية جداول وخيران صغيرة تتعالى أصواتها كشخير نائمين على ركام التاريخ وممشاه العريض…

وخرج الناس من كل فج، يحتفلون بعيدهم بعد صيام الشهر الفضيل، زاهون في الساحات والبيوت، التهاني والتبريكات على كل لسان، كشهد في أوداج النحل، رقصات شعبية لكل القبائل وأزياء مختلفة وسحنات متعددة العرب البدو يتحدرون من فرقانهم خارج المدينة وزعماء الفور و« شراتيهم » يتزاحمون عند مدخل منزل الديمنقاوي سيسي لتهنئته بالعيد وأشجار الدبكر والانجل في جانبي طريق منزله الفسيح تتسامق كأنها تعرف ما السماء وراحة الفضاء إلا في زالنجي..

“ت”

في تلك الناحية الخزفية المنمنمة من أروقة الزمن الناضر، والعيد زاهياً برونق لحظاته وألق الصباحات الجديدة، كانت هناك ترتيبات يقوم بها كبارنا ونحن صغار نلهث فرحين بالعيد، لرحلتين واحدة لمدينة نيرتتي عند السفح الغربي لجبل مرة والأخرى لوادي أزوم العظيم، شمال غرب زالنجي…

تم ترتيب الرحلة الأولى لأزوم في ثالث أيام العيد، تتابعت عربات وجلها من عربات الموظفين والعاملين في مشروع جبل مرة الزراعي، عربات من ماركة اللاندروفر والكومر وسيارة أخرى على شكل الميني بص من أجود الصناعة الروسية « فولغا» تأخذ اسم النهر الشهير في روسيا..

شق موكب السيارات المزارع والحدائق والغابات الصغيرة والأودية ذات الأشجار الكثيفة، تئن أنين الملدوغ وهي تتمشى على الأرض الصخرية ثم الرملية ثم الطينية الناعمة، التي كانت تتغير بين كل الأباطح والمنعرجات والخيران الدافقة، حتى أطل وادي أزوم المهيب، فهو واد عريض يبلغ عرضه في بعض الأحايين أكثر من كيلو مترين، لا يهدر كثيراً بل ينساب متدفقاً ممتلئاً لا ضجيج ولا جلبة وهدير وتصخاب على ضفافه أشجار الخروب والسيال والحراز والمانجو..

عند أطراف الوادي وفي حوافه، تناثرت آبار غير عميقة بنيت من الداخل من عيدان الشجر تتدلى فيها الأشطان والدلاء المصنوعة من الجلد الطري، وهناك أكثر من «مشيش» للماء الصافي البارد، ومعروف أن الرمال النظيفة تنقي الماء وتصفيه، وتجمع هنا وهناك آلاف الرعاة بإبلهم وضأنهم وأبقارهم وخيولهم المطهمة ومئات القرويين من المزارعين، وأسراب من الطيور وأفواج تحوم في المكان تنسج منظراً بديعاً، وللطيور في مجموعاتها وطيرانها نظام دقيق وترتيب منسق وحركة فيها انتظام وتكامل مدهش فنان..

“ث”

أنخنا رواحلنا الحديدية، وأنزلت كل مؤن الرحلة وفرشت بسط على الأرض المخضرة في سندسها الخضيل، ووضع كما أذكر للأستاذ «إبراهيم أبو الخيرات» كرسي القماش العريق القوسي الشكل وغاص فيه ومد رجليه وردد مقاطع من شعر إنجليزي لم نفهمه، وأشعل «كدوسه» العريق ونفث دخانه من بين صدغيه الكبيرين في الهواء الرطب تجاه السحب المرتفعة، وجلس بقية الآباء والأعمام في حلقات ودوائر، وذبحت الذبائح وجلب الحطب من الدغل القريب، وطفقنا نحن الصغار نجري ونلهو نلعب خالطت أرواحنا المناظرالخلابة والطبيعة البكر تتبختر كالطاؤوس البري أمام أعيننا، وكان هناك من يصيد الأوز و«جداد الوادي » بالبندقية الخرطوش وهناك من يطارد الغزلان الشاردة يترصدها كنسر كاسر.

الوادي الهادئ الممتلئ بمائه يتمهل كمخلوق خرافي ضخم في جريانه، ولون الماء المغبر بزبده يلون صفحة الأفق البعيد، والمروج الخضراء اللامتناهية كأنها بساط من سندس أخضر بلا نهاية تدلى من جنان الله الموعودة من أقصى مروج السماء…

عند ربوة نائية جلس معلم جليل من زملاء والدي، وكان شاعراً، يبدو أنه كتب قصيدته أو خاطرته في تلك اللحظة عن وادي أزوم، الوادي الذي يربط السودان وتشاد ويصب مع وادي كجا عند نقطة حدودية مهمة بين البلدين في «فوربرانغا» في أقصى حدودنا الغربية مع تشاد حيث تتكون بحيرة صغيرة هناك ويودع أزوم السودان متوغلاً متمهلاً إلى أراضي الدول الجارة…

عند هذا المنحنى في الذاكرة والعيد وزالنجي وأزوم تطل قصيدة عصماء لشاعرنا الكبير عالم عباس وهي من أشراف قصائده وأروعها، قصيدة وادي أزوم وفيها بوحه ورقة طبعه، ووصف لهذا الوادي العظيم وكتبت في مطلع السنوات السبعين من القرن الماضي …:

أزوم يا أزوم يا أزوم

يا شاطئاً رسى عليه زورق الغيوم

تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال

على الحراز والهشاب والخروب والسّيال

كأنما الندى عليه باقة من النجوم

على امتداد ما رأت عيناي من رؤى

والغابة العذراء مثل كوكب نأى

كأن زرقة السماء ثوب عرس

طرزت أطرافه رقائق النسيم

***

وحوّمت فراشة تعانق المساء عند حافة المغيب

شفافة الجناح

مثلما الرمال كل ذرة تكسرت من النجوم

وصافياً كأنه حداء عندليب

ومثل رغوة الحليب

تدافع السحاب عالياً

يدف جانحيه للسماء، للمدى الرحيب

هناك حيث كان يرتمي أزوم

وقبل ألف ألف عام

حين لم يكن أزوم غير فكرة في خاطر الإله

وحين كانت السماء غير هذه السماء

والحياة..

شيئاً آخر يضيق عن تصويره الكلام

وحين كان كل شيء مبهماً على الدوام

شاء ربنا بسر حرف “كن”

وسر لفظ “كن”

أن يوجد الإنسان كامناً في داخل الإنسان

فشال من جنان الخلد قطرة ومن دموع الحور

فهزها ورج رجتين

وصبها حيث كان يحتمي بأرضه

أحب ما يريد من خلق ومن بشر

فكان في بلادنا أزوم

وتصرخ الرياح مثلما الدويّ

وتعبر الوادي فيصعق الضعيف والقوي

ويرسل الأنين خافتاً

فيستجيش في سباته الهموم

وحين قلت همستين للرياح

انفلتت تفر من عقالها وركضت

تضرج التخوم

وسمرة الشط تغط في مهادها الخصيب

كمثل راهب يكدس الغموض حول سره الرهيب

ويستفيض في مخاضه القديم

فيجزل العطاء والعطاء مثل رحم الزمان

لا يني يدوم

منذ كان في بلادنا أزوم

أزوم يا أزوم

اللفظ ظل مثل جثة تنام في قرارة الأبد

وهبته أنا الحياة من دماي، من عصارة الشعور

من قرارة السعد

لكنه يعقني ،، يعقني

لكم وددت لو يطيع لحظة

وبعدها أفارق الجسد

أزوم،، أيها المهاب،، أيها العظيم

بكل امتدادك الشموخ في طريقك الطويل

بكل انسيابك البديع رائعاً ومروعاً

بكل اندفاعك الدفاق نحو الشمس في متاهة الغروب

بكل ما يحف شخصك المهيب من جلال روعة الطيوب

وكل ما تهزه حرارة التكوين والمخاض

وكل روعة العطاء والنماء

في كل ضمة عميقة يمنحها الحبيب للحبيب

إليك في سباتك اليقظان في مهادك العجيب

عليك من ستائر الغموض يرتمي وشاح

وفيك عند منحناك ذلك المحفوف بالأسرار عند همسة الرياح

كأنما الصباح

شروقه أزوم ،، نهاره أزوم،، غروبه أزوم

أواه ها أنا أعود مثلما بدأت

مكبلاً بالصمت والرهبة والوجوم

ماذا ترى أقول يا أزوم؟؟

“ج”

قضينا النهار كله في حضن أزوم وتلاطم موجه وطيب نسيمه، وحداء عنادله وغنائها، وقفشات الكبار التي تجتاح آذاننا، وشوينا لحم الغزال والطيور الشهية، والشمس تتنزى في الأفق الغربي مودعة صفحة السماء تلوح بين ذؤابات السحب وتغيب، حين سمعنا هدير السيارات تستعد للرحيل نحو زالنجي وجبالها البعيدة.. وأدخنة تعلو من فرقان الرحل ومن بين القرى المتباعدة شديدة الزرقة في ذلك الأصيل والمغيب.. وأزوم خلفنا يبدو .. في سر حرفي كن .. بينما عالم عباس لم يزل غارقاً في سباته اليقظان.. والصمت والوجوم ….!

Exit mobile version