التقسيم (الكيزاني) الصامت للسودان ينساب من نهر النيل!

التقسيم (الكيزاني) الصامت للسودان ينساب من نهر النيل!
منعم سليمان
في خضمّ النيران المستعرة منذ 15 أبريل 2023، وبينما تتجه أنظار العالم إلى الحرب وأهوالها، تتحرّك آلة أخرى، أشد خفاءً ولكن لا تقل فتكًا: آلة تقسيم البلاد والتمزيق الاجتماعي الممنهج، التي تديرها الحركة الإسلامية السودانية بدمٍ باردٍ وعينٍ لا ترمش. إذ لم تعد المعركة محصورة في ساحات القتال فحسب، بل امتدّت إلى الجغرافيا، والهوية، والانتماء ذاته.
في هذا الأسبوع، كشفت ولاية نهر النيل، التي تحوّلت إلى محمية كيزانية خالصة بعد الحرب، عن وجهها الكيزاني الحقيقي، حين أصدرت سلطاتها قراراً بمنع دخول أي مواطن سوداني لا يحمل بطاقة عمل!. لا فرق بين نازح وعامل، ولا بين مقيم وعابر سبيل. لا أحد يُعفى من هذا القرار، إلا من انتمى عرقيًا إلى الجماعات الإثنية المعترف بها ضمن حدود الولاية غير المُعلَنة!
إنّ ما يحدث في الولاية ليس إجراءً إداريًا أو أمنيًا عابرًا، بل هو مرآة صافية لمشروع تقسيم كيزاني عنصري بامتياز: مواطنون سودانيون يحملون أوراقهم الثبوتية، بطاقة تعريف شخصية، وجنسية سودانية، يُطلب منهم بطاقات عمل كشرطٍ لدخول الولاية، ويُطردون من داخل وطنهم، لا لشيء سوى أنّ وجوههم لا تسكن ذاكرة السلطة الكيزانية المحلية، ولأنّ أصولهم تعود إلى دارفور، أو كردفان، أو جبال النوبة.
إذن، نحن أمام نظام فصل عنصري (أبارتهايد) مكتمل الأركان!
ما حدث ويحدث ليس قانونًا، بل إقصاءٌ إثنيٌّ مُقنَّن. بطاقة العمل أصبحت أعلى من حقوق المواطنة، والانتماء الجغرافي صار جريمة، والمواطنة تُفرز بالسحنة. إنها ليست مجرد ولاية تُغلق حدودها، بل دولة كيزانية عرقية تتأسّس على أنقاض الدولة المدنية الحديثة؛ دولة الحريات والمواطنة المتساوية التي انقلبوا عليها وأشعلوا الحرب ضدّها.
الكيزان، وقد انكشفت مشاريعهم في السلطة، يعاودون اليوم بثّ سمومهم في شرايين الوطن عبر استراتيجيات التقسيم والتفكيك الصامت. في الظاهر، هم محاربون من أجل (الكرامة)، وفي العمق، هم مهندسو تفتيت اجتماعي خطير. فالعنصرية التي تُمارَس الآن ضد أبناء تلك الأقاليم المهمَّشة ليست حدثًا منفصلًا، بل حلقة في سلسلة طويلة: حرمان من الوثائق الثبوتية، منع من العملة، عزل عن الامتحانات، وشيطنة وتحقير يومي للهوية الثقافية والاجتماعية على صفحات السوشيال ميديا. هدفها النهائي هو تقسيم البلاد.
الحركة الإسلامية لا تكتفي بالخراب الذي أحدثته في السلطة، بل تعمل اليوم على إعادة تشكيل السودان على صورتها: بلاد منغلقة على نفسها، تنقسم على أسس العرق والطائفة، لا مكان فيها للآخر، ولا مستقبل فيها لمشروع وطني جامع. هدفهم ليس فقط العودة إلى الحكم، بل العودة إلى حُكم أقلية تصوغ الوطن على مقاسها، وتقصي كلّ ما عداها، وتحوّل الديمقراطية إلى خيانة وطنية، والتنوّع إلى تهمة!
إنّ ما يحدث في نهر النيل، وفي غيرها من الولايات، ليس سوى نُذُر تفكّك شامل، مشروع تقسيم يُنفَّذ بلا إعلان، ويتسلّل تحت عباءة “حفظ الأمن” و”سيادة القانون”.
إنّ الصمت على هذا المشروع هو خيانة للوطن في لحظة احتضاره. ومن لم يُبصر نيران الكراهية وهي تشتعل، فليُصغِ جيّدًا لصوت البلاد وهي تتشظّى هنا وهناك: ليس هذا زمن المهادنة، بل لحظة الحقيقة والمكاشفة والتصدّي.
نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن نقف جميعًا ضد تقسيم الوطن، أو نُدفن على خرائطه الممزقة، كلٌّ في ظلّه القبلي، وجحره الطائفي.