المشتركة وسوء التقدير وحتمية المصير
ما بين الخوي وباريس.”وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا"

المشتركة وسوء التقدير وحتمية المصير: ما بين الخوي وباريس.”وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا”
الطيب الهادي
بهذه الآية القرآنية يمكن تلخيص المشهد المتكرر لقوى سياسية وعسكرية سودانية، ظنت أن مناورتها وحيادها وخداعها للناس قد يقودها إلى نصرٍ ما، بينما هي تمضي بخُطى واثقة نحو هاوية الانكشاف الأخلاقي والسياسي، وحتماً نحو مصير لا فكاك منه.
عندما اندلعت الحرب في 15 أبريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ساد اعتقاد واسع بأن حركات الكفاح المسلح، خاصة تلك الموقعة على اتفاق جوبا، ستكون أقرب إلى الدعم السريع منها إلى الجيش، لا سيما أن الطرفين – الدعم السريع وهذه الحركات – ينتمون في غالبيتهم إلى الإقليم نفسه، إقليم دارفور، الذي ظل يدفع ثمن النزاعات المسلحة منذ مطلع الألفينيات وحتى اليوم.
ولم يكن ذلك الافتراض بلا منطق. فدارفور، التي ذاقت مرارات الحرب والتهميش، رأت في الدعم السريع – على الأقل في بداياته – تمردًا على مركز السلطة، أو سلاحًا في يد أبناء الإقليم. كما أن اتفاق جوبا للسلام، رغم هشاشته، منح قادة تلك الحركات فرصة لممارسة الحكم، وإن كان مؤقتًا ومحدودًا.
لكن، عندما وقعت المعركة الكبرى، تراجعت تلك الحركات وادعت “الحياد الإنساني”. قالت إنها مع المدنيين، مع الإغاثة، ومع وقف الحرب. وكان ذلك في ظاهره موقفًا نبيلًا، لكن باطنه حمل ارتباكًا، ومناورةً، وسوء تقدير سيدفع الجميع ثمنه لاحقًا.
فالحقيقة أن “المشتركة” – أي القوى الموقعة على اتفاق جوبا – لم تكن محايدة كما زعمت. بل عملت على تمرير السلاح إلى مناطق سيطرة الدعم السريع، تحت غطاء المساعدات الإنسانية، مستخدمة حاويات الإغاثة، مقابل تعهدات شكلية من قادة القوافل.
وفي لحظة ما، اكتشف الدعم السريع – متأخرًا – أنه كان يُستغفل. فالحركات التي يُفترض أن تكون حليفة، أو على الأقل صادقة في حيادها، خانت العهد، وخانت الكتاب، وخانت حتى دماء شهدائها الذين ضحّوا من أجل مشروع وعد بالكرامة والعدالة.
والنتيجة؟
دخول الإقليم مجددًا في موجة عنف، قصف بالطيران على المدنيين، ونزوح جماعي، وتشريد، وانعدام الغذاء والدواء ومياه الشرب. وما أشبه اليوم بالأمس، حين يدفع المواطن البسيط ثمن صفقات النخبة وتكتيكاتها الخائبة.
لكن سوء التقدير لم يتوقف عند حدود الوطن.
فها هم، اليوم، بعد سلسلة من الهزائم الميدانية والمعنوية، ينقلون معركتهم إلى أوروبا. مظاهرة باريس، التي نظمها سودانيون شرفاء للمطالبة بوقف الحرب والتحقيق في استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين، كانت محطة جديدة في مسلسل سقوط “المشتركة”، لكن هذه المرة سقوط أخلاقي.
لقد تم رصد عناصر من هذه الحركات وهم يحاولون اختراق التظاهرة، وتخريبها، وبعضهم كان يحمل السلاح الأبيض في وضح النهار. وهو سلوك ليس جديدًا عليهم، فقد تكرر سابقًا في عواصم أوروبية أخرى. وهذا يكشف أن الأزمة لم تعد أزمة موقف سياسي، بل أزمة مشروع برمّته، وأزمة قيادة تعاني من الإفلاس الأخلاقي والتخبط.
لقد اختاروا أن يكونوا ضد الناس، ضد الحقيقة، وضد الوطن.
ولأن السقوط لا يأتي دفعة واحدة، بل على مراحل، فقد حضرت “المشتركة” يوم السبت في باريس، لا لتعبّر عن موقف، بل لتُسجّل سقوطها الأخير. فبعد أن انهزمت عسكريًا في الخوي، حيث تفككت صفوفها وتبخّرت أوهامها، ها هي تسقط مجددًا، لكن هذه المرة أمام عدسات الكاميرات، وفي عاصمة تُقدّر حرية التعبير.
لقد سقطت في باريس، بعدما كشفت تصرفات عناصرها التخريبية أنهم فقدوا بوصلتهم، ولم يعودوا يحملون مشروعًا ولا رؤية، بل مجرد رغبة عشوائية في التشويش على صوت الشعب، وإرباك جموع السودانيين الذين خرجوا يهتفون للحياة، لا للموت.
نعم، المشتركة حضرت… لأنها سقطت.
سقطت عسكريًا في الخوي، وسقطت أخلاقيًا في باريس.
حضرت لتنتقم لا من خصومها، بل من الحقيقة ذاتها.
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
خاتمة :
يا أبناء السودان،
الحقيقة لا تُهزم، وإن تكاثف عليها الزيف. والمواقف لا تُقاس بالشعارات، بل تُختبر ساعة الفعل.
لقد رأينا من تاجر بالسلام فحوّله إلى غطاء للسلاح، ومن ادّعى الحياد فباعه في أسواق الخيانة، ومن خرج من الخوي يجر أذيال الهزيمة، ثم حاول في باريس أن ينتقم لا من خصومه، بل من صوت الشعب.
لكن الشعوب لا تُخدع مرتين. وما حدث في باريس كان إعلانًا رمزيًا لنهاية مشروع بائس، سقط في ميدان المعركة، ثم تعرّى أخلاقيًا في عواصم أوروبا.
السودان اليوم لا يحتاج سلاحًا إضافيًا، بل وعيًا إضافيًا.
لا يحتاج إلى تجار حروب، بل إلى رجال ونساء يحمون الضمير.
فاصنعوا خلاصكم بالصدق لا بالمؤامرة، بالحق لا بالحياد الزائف.
لأن المستقبل لا يُبنى إلا على الحقيقة…