برلمان الشرق: مناشدة في زمن الانهيار
د. الوليد آدم مادبو
“ها أنا رغم كل المسافات
يمتد في ظلمة الليل صوتي
وقد تعوّدت في زمن الزيف
أن يصبح السجن بيتي،
لن يزلزلني الذل في زمن الانكسار!
مولد الشمس لن يتأخر
فالفجر أغنية لقدوم النهار.”
للشاعر محمد عثمان كجراي من قصيدته “من ثقوب الغرابيل”.
في أزمنة الانهيار، لا يُنقذ الأوطان إلا صوتٌ يخرج من الأعماق. لا يُنقذها إلا نبضٌ أصيل، ينبثق من الأرض التي ذاقت مرارات التهميش ونكبات التجاهل وتواطؤ النخب. إنني أكتب اليوم وأنا أعلم أن هذا النداء ليس ترفاً، بل فريضةٌ وطنية، ومحنةٌ أخلاقية، ووصية تاريخية أودعها لأهلي في الشرق، علّهم يسبقون العاصفة، ويكسرون الدائرة، ويكونون طلائع الخروج من هذه المرحلة المظلمة.
لن أناقش “مشكلة الشرق في السودان”، بل سأناقش “مشكلة السودان في الشرق”. ففي هذا الإقليم تُكثّف الدولة المركزية اختلالاتها، وتنكشف حقيقتها العنصرية، وتستعر أطماعها في الذهب والميناء والموقع. لم يكن الشرق يوماً أرضاً نائية، بل هو القلب الذي ما انفك يُضخّ عليه الفساد والإهمال من المركز، حتى كاد أن يتوقف عن النبض وينضب معينه.
لكن، إن كانت النخب قد تآكلت، فإن الوعي الجمعي لم يمت. وما نحتاجه اليوم ليس سوى برلمان الشرق، لا كهيئة تقليدية، بل كمجموعة تأسيس للرؤية، منصة تُجمع فيها الكلمة، وتُصاغ فيها ملامح الدولة التي نستحق: دولة تقوم على المواطنة لا الامتيازات، وعلى الشراكة لا الهيمنة.
هذا البرلمان لا يهدف لطمس الاختلافات، بل لاحترامها وتنظيمها، وهو ليس بديلاً عن المجموعات القائمة، بل دعوة لها جميعاً للالتحاق أو التنسيق والتعاون، فمن لم يلتحق، فلينسق، ومن لم ينسق، فليتحاور.
لقد ظل الشرق عرضة للاستغلال الإقليمي، حيث يتعامل قادة الخرطوم معه كمنطقة عبور لا كفضاء وطني، ولا أدلّ على ذلك من تمكين البرهان للإريتريين من التمدد في شرق السودان واستغلاله كحائط صد بشري، يفصل بين الجيش الإثيوبي والإريتري.
ففي حالة اندلاع الحرب بين أسمرا وأديس أبابا، ستكون تضاريسنا الساحلية السهلية هي الطريق الأقصر نحو العمق الإرتري، حيث أن الحدود الجبلية بين إريتريا وإثيوبيا – على وعورتها – تشكل سداً طبيعياً، بينما السهول السودانية تصبح ممراً استراتيجياً مفضلاً لهجوم إثيوبي محتمل.
ومن هنا نفهم لماذا جاءت زيارة مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين إلى السودان عقب تهريب الطائرات العسكرية السودانية إلى إريتريا بعد الهجوم على بورتسودان، هذه ليست تفاصيل ثانوية، بل شواهد دامغة على أن السيادة باتت سلعة، وأن شرق السودان قد يُستخدم كأرض معركة للآخرين، بينما يُطالب أهله بالصمت.
في هذا المشهد، لا بد من دعوة كل القوى السياسية والاجتماعية في الشرق، بلا استثناء ولا تراتبية، إلى الالتحاق بركب التأسيس، أو على الأقل، العمل على بناء توافق يُبقي على وحدة الموقف والرؤية، فليس في الأمر خصومة مع موسى محمد أحمد، أو محمد طاهر بيتاي، أو إبراهيم دنيا، وهم الذين تربوا على المقاومة، وراكموا تجربة طويلة في إريتريا، ويُقال إنهم وُعدوا بالدمج، ولكن كما هي عادة البرهان: الوعد كذبة مُقنّعة.
كما لا يُنتقص من قدر السيد محمد الأمين ترك، اللمين داؤود، ومحمد طاهر أوقديف، فهم أبناء بيئتهم، ولهم امتداد قبلي راسخ، وإن افتقدوا للأدوات العسكرية، فإن ذلك لا يُنقص من حقهم في الشراكة السياسية والمساهمة في صناعة القرار. حتى شيبة ضرار، رغم ما يُقال عن تواضع حضوره السياسي والعسكري، فهو ابن الشرق، وله مكان في المشهد متى ما التزم بالمصلحة العامة وارتضى بالعمل الجماعي.
ومع هذا، لا يمكننا إغفال أن البوصلة الوطنية بدأت تتحرك صوب قوى أكثر التزامًا بروح الثورة. فـ”مؤتمر البجا المعارض”، الذي يمثل فيه الأستاذ **أسامة سعيد صوتًا عاقلًا ومثابرًا، و”الأسود السود” بقيادة الزعيم مبروك مبارك سليم، هما النواتان الأكثر وضوحًا في الخطاب الوطني الثوري، وقد اختارا الانحياز للريف السوداني، والتماهي مع الوجدان المقاوم لا مع مكائد المركز.
لكن لا أحد يحتكر المستقبل، ولا أحد يُقصى عن الحلم. كل من جاء صادقًا، فهو أهلٌ للنداء. إن التاريخ لا يُنتظر، والفرص لا تتكرر، وإذا ما تراجع الشرق عن قيادة نفسه، فسيقوده الآخرون نحو مصيرٍ مشؤوم. إننا أمام لحظة فارقة، تُشبه لحظة تأسيس جبهة نهضة دارفور، والاتحاد العام لجبال النوبة، ومؤتمر البجا في خمسينات القرن الماضي، يوم اجتمع الهامش، لا للتمرد، بل للتأسيس لدولةٍ عادلة.
فكيف يتأخر من أيقظ الوعي في البلاد عن حمل مشعله في زمن الغروب؟ كيف يرضى أحفاد الثوار أن يُختصروا في أدوار ثانوية، فيما تُدار مقدراتهم بعقول لا تعرف عن الشرق إلا خارطته؟ ليس من الكبرياء أن نصمت، وليس من الحكمة أن ننتظر اعترافًا من سلطة لا تعترف إلا بمن يبيع نفسه، فالصمت في حضرة الإقصاء خيانة، والانتظار على رصيف التهميش إلغاء للذات.
ختامًا، إن من نادى باكراً بدولة المواطنة لا يليق به إلا أن يكون في مقدمة من يعيد بناءها، لا على شروط الغالب، بل على أسس العدل والكرامة والمساواة.
أيها المثقفون والمتعلمون من أبناء الشرق، الريادة ليست ميزة، بل مسؤولية. وقد آن الأوان أن تكونوا النبراس الذي ينير هذا الدرب الوعر. تقدموا، فإن الشرق لم يُخلق ليستجدي، بل ليكون ركيزة في معادلة وطنية عادلة. الشرق لا ينقصه الذهب، بل الكلمة الجامعة. لا تنقصه الأرض، بل الرؤية المشتركة. لا ينقصه الرجال، بل الخيط الذي يجمعهم.
والرائد، إن صدق، لا يخون أهله.