خازوق اتفاق سلام جوبا: بين طبيعة وجذور الأزمة
حكومة بورتسودان والتآمر على مشروع السودان الجديد

خازوق اتفاق سلام جوبا: بين طبيعة وجذور الأزمة: حكومة بورتسودان والتآمر على مشروع السودان الجديد
خالد كودي
منذ الاستقلال، والمشكلة السودانية ليست في “وقف إطلاق النار”، ولا في “تقاسم الحصص”، بل في طبيعة الدولة نفسها: دولة مركزية قهرية، قائمة على تراتبية اجتماعية وعنصرية، تستبطن تهميش الأقاليم، وتصوغ علاقتها بالمجتمع وفق منظومة فوقية من الاستبعاد الديني والثقافي والاقتصادي.
هذه الحقيقة ما انفكت تتهرّب منها نخب المركز – المدنية والعسكرية – منذ الاستقلال، وتعيد تدوير الأزمة جيلاً بعد جيل.
مشروع السودان الجديد: الجذور في مواجهة الحروب:
حين طرحت، واصرت الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال علي مشروع السودان الجديد في مفاوضات أديس أبابا (2019–2020)، وغيرها لم تكن تطرح شعارات فارغة، بل مشروعًا متماسكًا لبناء دولة حديثة قائم علي:
– فصل الدين عن الدولة
– ديمقراطية تعددية
– لامركزية حقيقية
– عدالة تاريخية تعترف بالمظالم البنيوية
– جيش مهني قومي واحد
لقد كانت هذه المبادئ تشكّل اختبارًا حقيقيًا لنوايا قوى الثورة. لكن قوى الحرية والتغيير وحكومة عبد الله حمدوك، ومعها قيادة الجيش آنذاك، سرعان ما تبيّن أنها غير راغبة في هذه القطيعة مع بنية السودان القديم.
كان هدفهم الحفاظ على “علاقات القوى” والامتيازات التاريخية كما هي: مركز مهيمن، جيش فوق المساءلة، دولة تخشى الاعتراف بجذور التهميش.
اختراع “سلام جوبا”: هندسة الخداع السياسي وارتداد الفعل:
في مواجهة جوهر الأزمة السودانية، القائمة على تركة استعمارية مثقلة، وبنية مركزية احتكارية، وتهميش تاريخي عميق، لجأت القوى الحاكمة – من مجلس السيادة والجيش إلى بعض النخب المدنية – إلى ممارسة شكلية بديلة عن الحل الجذري، فابتدعت “سلام جوبا” (3 أكتوبر 2020) كاتفاق مصمم هندسياً لإدارة الأزمة لا لحلها. بدلاً من الاعتراف بالأسئلة التأسيسية حول العدالة التاريخية، والعلمانية، واللامركزية، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، فُرض اتفاق هشّ عبر مشهد إعلامي استعراضي، استُجلبت له فصائل مسلحة مهزومة، مخترقة، وفاقدة لأي مشروع تحرري ثوري، أبرزها بعض فصائل الحركات الدارفورية التي تعاني من أزمات قيادة، للتوقيع مقابل:
– حصص وزارية
– مناصب سيادية
– تمثيل رمزي في مؤسسات الدولة المركزية
– صمت استراتيجي عن قضايا مثل فصل الدين عن الدولة، العدالة الانتقالية، جبر الضرر، وإعادة توزيع السلطة والثروة وفقا لعملية عدالة انتقالية استراتيجية ومتقدمة.
هكذا تحوّل “السلام” من مشروع تحوّلي إلى أداة لإعادة إنتاج نظام ما قبل الثورة، أو ما يُعرف مجازاً بـ”السودان القديم”. لقد أُلبس اتفاق جوبا عباءة الإنجاز الوطني، في حين كان في جوهره صفقة سياسية لتدوير النخب وإجهاض أي محاولة لبناء مشروع تأسيسي جديد، وقت تم استخدام الحركات كتمثيل ترميزي للسلام وللهامش في هذا الاحتيال. وما نراه اليوم من فوضى سياسية وتعقيد في تشكيل حكومة جديدة في بورتسودان ما هو إلا ارتداد طبيعي لفعل مُهيمن لم يراعِ شروط العدالة ولا أصوات الضحايا، ولا التغيير الثوري…
وكما قال مالكوم إكس: “إن الدجاج يعود دومًا إلى عشه””
(The chickens come home to roost)
اتفاقية سلام جوبا التي صيغت لتجاوز استحقاقات الثورة، وترحيل المواجهة مع المظالم البنيوية، قد عادت الآن لتُسائل صانعيها. فقد تسببت الاتفاقية في خلق شبكة من الامتيازات الهشة، والكيانات العنصرية، والانتهازية الفكرية، التي باتت اليوم عاجزة عن حتى إدارة الخراب الذي ساهمت في ترسيخه. وليس الأمر سوى بداية مواجهة لا مفر منها، بين قوى تسعى إلى التغيير الثوري والجذري تأسيسًا على العدالة، والمواطنة، والمساواة، وبين نخب قديمة استبدلت الاستعمار بامتيازها الخاص، وتحرّف معنى السلام إلى صفقات على حساب مستقبل وطن بأكمله.
أولًا: اتفاق جوبا والصفقة المؤجلة مع العدالة – قراءة في وقائع الفشل والدماء: لم يكن اتفاق جوبا للسلام، الموقع في 3 أكتوبر 2020، نتاجًا لمسار تفاوضي ثوري وشامل ليعالج جذور الأزمة السودانية، بل تجسيدًا واضحًا لما يُسمى في أدبيات السلام النقدي بـ”السلام النيوليبرالي”، حيث تُختزل النزاعات البنيوية في تسويات نُخبوية فوقية. لقد جاء الاتفاق في سياق ما بعد ثورة ديسمبر، لا باعتباره خطوة نحو إعادة تأسيس الدولة على قواعد جديدة من العدالة والمواطنة والمساواة، بل كصفقة سياسية هدفت إلى إعادة ترتيب موازين السلطة ضمن البنية القديمة، مقابل إسكات المطالب التأسيسية.
ورغم الزخم الخطابي والإعلامي الذي رافق توقيعه، أثبتت الوقائع أن الاتفاق افتقر إلى أية أدوات تحوّلية حقيقية. لقد تم تقويض المبدأ الأساسي لأي عملية سلام عادلة، وهو إشراك الضحايا والمجتمعات المتضررة في صنع القرار، وتمّت إحالة قضايا مصيرية مثل العدالة التاريخية، إصلاح الأجهزة الأمنية، وفصل الدين عن الدولة، إلى الهامش.
غياب التنفيذ وتحريف المسار:
وعلى بؤس الاتفاق، لم تُفعل البنود الجوهرية المتعلقة بإعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، ولم تُوضع خارطة طريق ملموسة لمحاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق- والخرطوم.
– قُمعت المطالب التأسيسية التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، والمتمثلة في ضرورة إقرار مبادئ فوق دستورية تكفل المواطنة بلا تمييز، وتُقر التعدد الإثني والثقافي والديني.
– دخلت الفصائل المسلحة الموقعة في سباق لتقاسم المناصب، مما أفرغ الاتفاق من أي مضمون وطني تحويلي، ليُعاد إنتاج نموذج المحاصصة والزبونية السياسية بدلاً من بناء كتلة انتقالية تستند إلى برنامج للعدالة والسلام المستدام.
ثانيًا: حرب 15 أبريل 2023 والانهيار الكامل لترتيبات ما بعد جوبا:
اندلعت الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، كاشفة عن الطبيعة الورقية والهشة لترتيبات اتفاق جوبا، وفشل الطبقة السياسية والعسكرية في التأسيس لأي منظومة إدارة سلمية للتنوع أو انتقال ديمقراطي. لقد دخل السودان في واحدة من أشرس الحروب في تاريخه الحديث.
التبعات الكارثية للحرب:
– استخدام أسلحة محرمة دوليًا: وثقت تقارير هيومن رايتس ووتش (أكتوبر 2023) وفرونت لاين ديفندرز، استخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين في دارفور، وهي ممارسات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
– التهجير القسري الجماعي:
بحسب تقرير
UNHCR
(ديسمبر (2023)، فاق عدد النازحين داخليًا والمُهجرين قسرًا 7 ملايين إنسان، في أكبر موجة نزوح تشهدها البلاد منذ استقلالها. – تدمير شامل للبنى المدنية:
أُحرقت قرى بأكملها، استُهدفت المدارس والمستشفيات، وتحوّلت الأسواق إلى ساحات قتل جماعي، في استعراض مروّع لغياب الدولة وانهيار القانون.
ثالثًا: الاستعصاء السياسي والتمسك بالسلطة عبر خطاب الإنكار:
رغم عمق المأساة، استمرت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، بقيادة عبد الفتاح البرهان، في اعتماد خطاب السيادة والإنكار، رافضة التعاون مع آليات المساءلة الدولية، ومستخدمة خطاب “التمرد” لتبرير القمع والتوسع العسكري، بينما تصوغ قوانين ودساتير جديدة لتكريس الحكم الفردي العسكري والديكتاتوري بالتامر مع اسلاميي النظام القديم.
إن هذا الإصرار على الإنكار، ورفض الاعتراف بالجرائم والانتهاكات، لا يعكس فقط أزمة سياسية، بل يدل على انهيار أخلاقي ونفسي في بنية السلطة السودانية، التي لم تتعلم شيئًا من دروس التاريخ، وتصر علي عدم التعلم.
رابعًا: تعديل الوثيقة الدستورية
– الشرعنة الجديدة للاستبداد: في فبراير 2025، قام البرهان بتعديل الوثيقة الدستورية بطريقة أحادية، منح بموجبها مجلس السيادة:
– سلطات تنفيذية وتشريعية مطلقة
– حق تعيين وعزل رئيس الوزراء
– حق إعلان حالة الطوارئ
– السيطرة الكاملة على الجيش، الشرطة، وجهاز الأمن وهو ما مثّل انقلابًا دستوريًا ناعمًا على مبادئ الانتقال، وجعل من “الحكومة المدنية” مجرد واجهة شكلية لاستبداد عسكري متجدد.
خامسًا: “دمية مدنية” وصراع الغنائم
– تدوير الخداع وتعميق خيانة الثورة: في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة، لجأ عبد الفتاح البرهان إلى حيلة مجرّبة:
تعيين رئيس وزراء مدني صوري، هو الدكتور كامل إدريس، ليقدّمه كواجهة مدنية تفاوض بها حكومة بورتسودان المجتمع الدولي.
غير أن هذا التعيين لم يكن سوى استمرارًا في مشروع الحرب لا خروجًا منه؛ إذ لم يتأخر الدكتور الدمية كامل ادريس في إعلان انسجامه التام مع خطاب المؤسسة العسكرية، حين صرّح بعزمه “الانتصار على التمرد”، في إشارة صريحة إلى تحالف السودان الجديد، ذلك التحالف الذي يحمل مطالب جذرية تشمل:
– علمانية الدولة كضمان للمواطنة المتساوية
– بناء جيش قومي مهني بعيد عن الولاءات
– عدالة تاريخية تُنصف ضحايا الحروب والتهميش
– عقد اجتماعي جديد يُنهي هيمنة المركز ويعترف بالتعدد والكرامة لكل الشعب. وبينما حاول الدكتور كامل إدريس أن يتقمّص دور “الرئيس المدني”، جاء قراره بحل حكومة بورتسودان الانقلابية ليس كخطوة لتفكيك بنية الحكم العسكري، بل كإجراء تكتيكي يستهدف إعادة ترتيب المشهد النخبوي، ضمن لعبة مفضوحة لإعادة توزيع الغنائم بين المجلس العسكري وحلفائه من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا. لقد بدا هذا بوضوح في الصراع المتفجر حاليًا بين قوى سلام جوبا والوزير “الدمية”، حيث تدور معركة الوزارات لا بوصفها أدوات خدمة للصالح العام، بل باعتبارها موارد نفوذ واقتصاد سياسي، يُقايض عبرها ولاء السلطة بامتيازات ظرفية. في هذا السياق، لا يمثل تعيين إدريس سوى حلقة جديدة في مسلسل تدوير الخداع السياسي، وإمعانًا في خيانة المبادئ المؤسسة لثورة ديسمبر
– التي رفعت شعارات العدالة، والمواطنة، وإنهاء سلطة الزبونية العسكرية-المدنية. الحركات المسلحة: استمرار في صفقة الدم:
وفي المقابل، تواصلت سلوكيات الابتزاز السياسي من جانب الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، إذ:
– تمسكت بحصصها الوزارية كحق مكتسب خارج أي تفويض شعبي
– شاركت في سلطة بورتسودان رغم انهيارها الأخلاقي والسياسي
– قايضت مأساة ملايين النازحين بمناصب زائلة ومصالح ضيقة، في مشهد يتكرر بلا خجل منذ توقيع الاتفاق. وفيما النخب تتصارع على الوزارات، يستمر المشهد الدموي في الخلفية:
– الملايين عالقون في معسكرات النزوح ومناطق اللجوء
– آخرون على حدود الدول يواجهون الجوع والعنف
– أطفال يموتون بالقصف في كردفان ودارفور
– وشهادات يومية تتراكم حول مجازر ميدانية بلا رادع، في ظل صمت رسمي دولي ومحلي، لا يُخرقه سوى أنين الضحايا. إن ما يجري في بورتسودان ليس انتقالاً نحو مدنية، بل تمديد لحكم العسكر بأدوات مدنية مُزيّفة.
إنه استثمار متجدد في الخراب، وتمسك هستيري ببنية دولة و بنظام فقد شرعيته الأخلاقية، وبات عائقًا أمام أي إمكانية للسلام أو إعادة البناء. اخيرا:
الدرس التأسيسي لأي عملية سياسية مقبلة:
لن تنجح أي عملية سياسية قادمة في السودان ما لم تعترف أولاً بالفشل الأخلاقي والسياسي لمشاريع واتفاقيات علي راسها اتفاق سلام جوبا، وتُعيد تعريف المشروع الوطني استنادًا إلى الأسئلة الكبرى المؤجلة
– العدالة التاريخية
– المواطنة بلا تمييز
– تفكيك بنية الدولة القمعية
– وتأسيس جيش وطني موحد تحت سلطة مدنية إن السلام لا يُصنع بالتواطؤ ولا بالتسويات الزائفة.
وكما قال فرانتز فانون:
.”كل جيل، في ظل غموضه، يجب أن يجد مهمته، إما أن يخونها أو يتمّمها” إن الجيل الحالي في السودان أمام امتحان تأسيسي حاسم: إما استعادة مشروع السودان الجديد، أو ترك الدولة تُبتلع بالكامل في قبضة العسكر، والإسلاميين والمرتزقة، والنخب المتواطئة.
إلى أفق التأسيس: لقد أظهرت تجربة السودان، منذ توقيع اتفاق جوبا في 2020 وحتى مآسي الحرب الراهنة، حقيقة عارية لا يجوز الهروب منها:
أن دولة الرشى السياسية، والسلام الزائف، والمدنية الشكلية، لا تبني أوطانا، ولا توقف نزيفا ولا تصنع عدالة. فكل محاولة لتسويق صفقات النخب كبديل عن مشروع تأسيسي عادل، لن تنجب سوى المزيد من الانهيار والصراعات، وستعيد إنتاج نفس البنية التي أفرزت الحروب والتمييز والتهميش منذ الاستقلال. إن الدرس التاريخي القاطع هو أن السلام المستدام والديمقراطية الحقة لا يصنعهما السلاح وحده، ولا المحاصصة، ولا شعارات “الوطنية” الفارغة، بل يؤسّسهما عقد اجتماعي جديد، يعترف أولاً بجرائم الماضي، ويكفل المساواة بين جميع المواطنين بلا استثناء. ولن يكون لهذا العقد من معنى دون:
– علمانية الدولة، كضمان لحقوق المواطنة
– عدالة تاريخية ملزمة، تضع نهاية لجريمة الإفلات من العقاب
– لا مركزية حقيقية، تقطع مع مركزية الإقصاء
– جيش قومي مهني، لا ولاء له سوى للدستور المدني
– دستور معبّر عن كل شعوب السودان، لا دستور فوقي يُفرض من نخبة أو قوة عسكرية إن العودة إلى منصة “تحالف تأسيس” ليست ترفًا فكريًا، بل هي شرط تاريخي لإنقاذ السودان من دوامة الانهيار. وكل محاولة لمواصلة السير في طريق “خازوق سلام جوبا”، أو إعادة تدوير النخب الفاسدة، لن تكون سوى بناءٍ فوق ركام الضحايا.
اليوم، تقف القوى الديمقراطية والطلائع الشعبية أمام خيار وجودي:
– إما التأسيس الثوري والجذري لدولة جديدة تقوم على العدالة والمواطنة
– أو إعادة إنتاج الجحيم ذاته، حيث تتكرّر الكارثة على أنقاض أجيالٍ جديدة.
وقد آن أوان الخيار الأول، لا باعتباره شعارًا، بل باعتباره واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا عاجلًا أمام ضمير الوطن. النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)