كوزنوسترا السودان: نهاية وهم، وبداية وطن
د. الوليد آدم مادبو
“الطغيان لا يقوم إلا على أعمدة من الخوف والكذب والصمت.”
— جبران خليل جبران
في قلب الخراب السوداني، لا تزال “الكوزنوسترا” تمارس طقوسها المقدسة في الظلام—تلك الجماعة التي لا تختلف كثيراً عن عصابات “كوزا نوسترا” الصِقَلِّية، سوى أنها ترتدي عباءة الدين وتدّعي الطهرانية. وكما كان الولاء في المافيا يُمنح سراً خلف الأبواب المغلقة، يُقسم الكوز السوداني على حماية الشبكة، لا الدولة، وعلى الدفاع عن التنظيم، لا الوطن. إنها مافيا بعقلية دينية، تتقن فنون الابتزاز السياسي، وتبييض الأموال عبر واجهات “إغاثية”، وتتقاسم الغنائم في اجتماعاتها المغلقة التي تشبه مجالس العرّاب (GodFather).
“الكوزنوسترا” لا تؤمن بالديمقراطية، بل بالبيعة للشيطان. لا تعترف بالقانون، بل بالتمكين. لا تخشى الله، بل تخاف انكشاف المستور. وهي إذ تحتكر السلطة والثروة والذاكرة الجمعية، فإنها لا تتورع عن استخدام القبيلة والجهة غطاءً لانتهاكاتها، ثم تنسحب، تاركةً خلفها الخراب والعار موزعين على الأبرياء من أهل الجهة ذاتها.
مصطلح Cosa Nostra إيطالي في الأصل يعني “أمرُنا الخاص”، دلالة على الخصوصية والانغلاق. وقد أحسن الواقع السوداني تمثّل هذه الفكرة حين أنشأ الإسلاميون تنظيمًا سريًا يتحكم في كل مفاصل الدولة، ويديرها بعقلية لا تختلف عن تنظيمات الجريمة العابرة للحدود. هذه “الكوزا نوسترا” السودانية حكمت باسم شعوب الشمال، لكنها أذاقتهم الويل، كما فعلت نظيرتها الصِقَلِّية التي حكمت باسم شعبها وقهرته.
لقد حان الوقت لنقول ما يجب أن يُقال، دون خوف أو مجاملة: علينا أن نتبرأ، وبوضوح لا لبس فيه، من كل مجرمٍ يحتمي بقبيلته، ومن كل فاسدٍ يلوذ بالجهة ليُخفي سوأته. لا شرف في جرائم تُرتكب باسمنا، ولا عذر لبقاء الصامتين. فإذا كان المركز، في يومٍ ما، ذو طابع جهوي وقبلي، فإن هذه الصبغة قد انقضت اليوم. صارت النار تطال الجميع بلا تمييز، ولم يعد هناك من ينجو باسم القبيلة أو يحتمي بظل الجهة. نحن اليوم، جميعًا، في قاع الندامة، نعض أصابعنا على وطنٍ ضاع بين جشع القتلة وصمت العقلاء.
ولا خلاص لنا، إلا إذا تخلّصنا من القبطان الذي فقد صوابه، ذاك الذي جمع بين الطمع والجنون، بين حب السلطة والتلذذ بإذلال شعبه. وطننا عنده ليس إلا مطيةً لأطماعه، حقلًا لموارده، وساحةً لتصفية خصوماته. هذا القبطان لا يرى في السودان أمة، بل غنيمة، ولا في أهله شعبًا، بل رهائن.
لقد انقضّت “الإنقاذ” على مؤسساتنا، وابتلعت إرثنا، ودمّرت اقتصادنا، لكنها لم تنجح في تزييف وعينا تماماً. رفضها الناس من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب، من بورتسودان إلى نيالا. ورغم كل ما بثّته من فتنة، وما زرعته من ريبة، ظلت بعض النفوس عصيّة على الخنوع.
حين ذهب نافع وعلي عثمان إلى أقصى الشمال أول أيام الإنقاذ لتسويق المشروع الإسلاموي في ثوبه العرقي، كان رد الأهالي لاذعاً في نكتتهم الساخرة: “موسى من عندنا، عيسى من عندنا، محمد من عندنا، والله ذاتو من عندنا!” سخرية “حلفاوية” لاذعة أوجعتهم، لكنها لم تردعهم. فأعادوا إنتاج الفتنة في ثياب جديدة، حشدوا أهل الشمال، ولوّحوا بخطر “الهامش”، وظنوا أنهم قادرون على استعادة السيطرة. لكنّ نُخبًا من الشماليين الوطنيين المستنيرين قالتها بوضوح: “ليس باسمنا, ليس هذه المرة” (Not In Our Name, Not This Time)!
وإن كنت قد انشغلت، في وقت ما، بنقد مركزية الدولة وانحيازها التاريخي، فإن الإنصاف يفرض عليّ اليوم الاعتراف بأن شعوب الشمال، وإن لم تُباد كما أُبيدت شعوب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، فقد أُهينت وأُفقرت وأُذلّت. فليس من العدل أن نُحمّل هذه الشعوب الكريمة النبيلة وزر عصابة اختطفتهم واستخدمت أسماءهم عباءة، وإن كنت لا أعفي ولوغ بعض أفرادها -كما ولغ ربعي- في دماء السودانيين بذريعة “الانتخاب الطبيعي” الذي ظلت تمارسه أجهزة “الأمن الوطني” تحت قيادة الإسلاميين.
لقد تعرضت نُخب المركز لضربتين قاسيتين: مرة حين اجتثت الإنقاذ جذورها الاقتصادية والسياسية، وأخرى حين دارت الحرب في قلب الخرطوم، وفتحت أبواب الجحيم على كل ساكنيها. وكانت النتيجة: نزوح جماعي، إذلال، تجويع، ودمار لا يفرّق بين موالٍ أو معارض.
كل من بقي من هذه العصابة اليوم، لا يحكم، بل يؤدّي أدواراً هزيلة في مسرحية عبثية. في بورتسودان، لا توجد حكومة، بل شبحٌ متكلّف: جنرال بلا كاريزما قيادية، جيش بلا عقيدة قتالية، و”كرامة” تحوّلت إلى مهزلة قومية. ما تبقى من الجيش ليس سوى مليشيا طائفية، تُدير حرباً طاحنة لصالح تحالفات إسلامية قبلية ومصالح مالية ضخمة. البلاد تُنهب وتُحرَق، بينما الكبار يُخرجون عائلاتهم من البلد، ويتفرّجون من شرفات الأمان ومناحي الافتتان.
ختامًا، إن جوهر هذه اللحظة التاريخية يتمثل في اختيارٍ أخلاقي لا يمكن تأجيله: إما أن نستمر في تبرير القتل باسم القبيلة والجهة والدين، أو أن ننهض، أخيراً، كأمّة تنبذ الكذب وتكسر ولاء الطغاة الذين لا يرون في الوطن سوى مزرعة غنائم. ليس ثمة وقتٌ للرماديات. يجب أن نتبرأ بوضوح من العصابة التي خنقت الوطن وسرقت اسمه، وأن نعيد تعريف الشرف الوطني بعيداً عن التواطؤ والصمت والاصطفاف الأعمى.
ما نواجهه ليس خلافاً سياسياً، بل شبكة إجرامية تلبست بالدولة وتريد الآن إحراق ما تبقّى منها لتنجو. لكننا قادرون، إن امتلكنا الشجاعة، على قطع شرايين هذه الكوزنوسترا، وتدشين وطنٍ لا يحكمه القتلة ولا تُخنق فيه الحقيقة. السودان لم يمت، لكنه ينتظر من يقول: “الولاء للوطن وليس للعصابة!”