في حضرة الألم: دعوة إلى تجاوز الشيطنة وبناء وطن للجميع
د. الوليد مادبو
في أزمنة الانهيار الوطني، تميل المجتمعات التي اعتادت على الخداع — خداع الذات — إلى تبسيط مآسيها بتعيين “شيطان رسمي” تعلق عليه خطاياها. وفي المشهد السوداني الراهن، يكاد الدعم السريع أن يحتل هذه المكانة بامتياز. أما العطاوة، بحكم العلاقة القبلية مع قيادة الدعم السريع، فقد وجدوا أنفسهم موضوعًا لحملة شيطنة جماعية تكاد تُحملهم وزر دولة كاملة انهارت على رؤوس الجميع.
غير أن عدالة الغضب لا تكفي لبناء تصورات تاريخية مسؤولة، ولا تبرر إسقاط التعقيدات البنيوية والسياسية العميقة على مجموعة إثنية أو جغرافية بعينها. فالمأزق السوداني أوسع من الدعم السريع، وأقدم من دولة الإمارات. إنه مأزق دولة تأسست، منذ الاستقلال (1956)، على الإقصاء الاجتماعي، والتمييز الاقتصادي، وتحويل “الهامش” إلى مجرد مورد للعمالة الرخيصة، والجنود المأجورين، والضحايا المنسيين.
إن إنصاف الدعم السريع في هذا السياق لا يعني تبرئة أي مجرم تورط في سفك الدماء أو انتهاك الحرمات. ولكنه يعني رفض الانزلاق إلى محاكمات الهوية التي تصنع من الانتماء القبلي قرينة اتهام جماعي. فالمسؤولية الجنائية فردية، ويجب أن تظل كذلك، وإلا غرقنا جميعا في مستنقع الانتقام الأعمى الذي لا يبني وطنا.
كذلك فإن اقتصار النقد على الدعم السريع دون مساءلة البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنجبته، هو ضرب من العمى المتعمد. فمنذ عقود، كانت النخب المركزية تعيد إنتاج السلطة عبر تفتيت الهامش وإشعال الحروب القبلية، ليتسنى لها التمتع بالريع السياسي والاقتصادي منفردة. لا غرو، أنه قد كان لدى جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني وحدة تُعرف باسم “*شعبة القبائل”!*
إن تحميل جماعة بأكملها وزر جرائم ارتكبها بعض أفرادها، ليس عدلًا، بل تكرار لدورات الظلم نفسها التي نحاول كسرها. فلا مستقبل لوطن يؤسس إدانته على الهوية لا على الفعل، ولا قيام لدولة القانون إلا بفصل الجرم عن الانتماء. وقد رأينا العمليات الانتقامية التي قادها قادة الجيش ضد قرى متهمة بالانتماء الإثني أو الجغرافي للدعم السريع بعد انسحاب الأخير، من مناطق مثل ود عشانا وأم شوكة بولاية سنار.
العدالة الانتقالية التي تحقّق الشفاء العميق للسودان لا تكتفي بملاحقة القتلة في ساحات المعركة فقط، بل تتجه ببصيرتها أيضا نحو تفكيك البُنى السياسية والاقتصادية والثقافية التي أنجبت العنف، ورعته، وأدارته في الخفاء. لابد من مراجعة منظومة السلطة والثروة، ونقد البنى الفكرية والثقافية والاجتماعية التي كرّست الإقصاء والتهميش وأطلقت شرور الحرب. فمحاكمة الأفراد دون مساءلة النظام الذي أنتجهم، لن تكون إلا مسكنًا مؤقتًا لجرح غائر يحتاج إلى علاج جذري.
الخروج من مستنقع الدم والكراهية لا يكون إلا عبر مشروع وطني جامع، يعيد تعريف السودان على أسس جديدة تتجاوز ثنائية المركز والهامش، والجلابة والغرابة، والعرب والزُرقة، والريف والمدن. لا خلاص إلا بدولة تقوم على المواطنة الكاملة، والمساواة التامة في الحقوق والفرص، والاحترام غير المشروط للكرامة الإنسانية لكل فرد. علينا أن نؤسس لسردية جديدة تحتفي بالتنوع لا تنكره، وتبني جسور الثقة بدلًا من جدران الريبة، لتكون لكل سوداني مكان ومكانة في وطنه.
ليس المطلوب أن ننكر الجراح أو نلتمس الأعذار للفظائع، بل أن نصون ذاكرتنا من أن تتحول إلى وقود لكراهية جديدة. الخطر ليس في الألم ذاته، بل في استثماره لتوسيع الشروخ وإعادة إنتاج العداوات. الرهان اليوم هو: هل نحول الألم إلى وعي، والغضب إلى مشروع، والمأساة إلى فرصة لتأسيس وطن جديد يقوم على المواطنة والعدالة أم إننا سنستمر في محاولة الشيطنة المجحفة؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن ننشغل به، لا بمطاردة أشباح القبائل ولا بتوسيع دوائر الشيطنة لتطال كل من انتمى إلى اسم أو جهة.
ختاماً، في حضرة هذا الألم العظيم، لنتعاهد ألا نسمح لجراحنا أن تستحيل أسلحة تُشهر في وجه بعضنا البعض، ولا لذاكرتنا أن تُختطف لصناعة أحقاد جديدة. إن السودان الذي نحلم به لا يولد من رحم الشيطنة ولا ينهض على ركام القبائل المتناحرة، بل ينبت في أرض التصالح، ويرتوي من ماء الإخاء، ويزدهر في ظلال العدالة والمساواة. فلنجعل من ألمنا درسًا، ومن ذاكرتنا ذخيرة للسلام، ومن اختلافنا زينة لوطن يتسع لنا جميعًا. فليس بيننا من رابح في الحرب، ولا من خاسر في السلام.