التباسات الإسلاميين على شاهد قبر موسى ..!!

(السكوت من ذهب)، قاعدة مراوغة للغاية في عالم السياسة، لكن الإسلاميين في السودان مارسوها هذه الأيام في كل الأحوال. ففي كثير من المواقف السياسية تجيء تلك القاعدة لتصيب المطلوب ويصير الصمت هو الطلقة الصائبة ناحية الهدف، وفي أحيان أخرى يكون الموقف السياسي في أشد الحاجة إلى الصوت الكاشف، حتى ينير له الطريق وتكتب له الحياة، فمن دون هذا الضوء الباهر يسقط الكثير في ظلام الغموض ويموت، والإسلاميون بحاجة لاستدراكات مثل هذه.

 صباح الأربعاء 28 أغسطس 2019 خرج معظم الإسلاميين من اختفائهم القسري، ومشوا خلف جنازة الأستاذ الصحفي  موسى يعقوب الذي خطفه الموت بعد عمر مديد، وهي مناسبة اجتماعية جامعة لكن الإسلاميين برغم أنهم تعودوا أن تجمعهم المصائب، إلا أنه كأنهم كانوا ينتظرون تلك اللحظة، جاء الجيل الثاني وبعض ممن بقي من الجيل الأول، بينما غاب الجيلان الثالث والرابع للحركة الإسلامية عن المناسبة، وهذا يوضح أولى الالتباسات في مشروع الحركة الإسلامية في سنواته الأخيرة، إذ لم يحقق فضيلة تواصل الأجيال بالمنهج الحركي الحقيقي الذي يكلف للأعضاء اللاحقين المعرفة الكاملة بالمشروع الحضاري، وهو أمر جعل الكثيرين ينحو على المنهج الذي ركز على السياسة التي في أفضل حالاتها تمارس فضيلة المكاسب دون استقامة واضحة لتعطي نتائج مضمونة باتت الحركة الإسلامية في أيدي السياسيين كنقطة الزئبق المتأرجحة تحتاج إلى مهارة فريدة للإمساك بها ليمكن تحديد أين المشروع الحضاري في أي خطوة، ومتى يكون الصمت،  وأين يأتي الكلام? مارس رجال السياسة قاعدة الصمت كأداة مراوغة لا تقية وهي تبقى دائماً غير قابلة للتطبيق، ولذلك نسمع اصوات هنا وهناك هذه الأيام ممن تعافوا من الشظايا الملتبسة التي أصابت أجسادهم جراء صواريخ جراد الثورة المجيدة التي كثير منها صار يضرب بعشوائية كيان الإسلاميين وفي نفس الوقت لا زال البعض تحت تأثير الصدمة والذهول من الذي جرى لهم بغتة.

 موسى يعقوب وأجياله كانوا يدركون كل المآلات المتوقعة، لذلك عاش كل حياته صامتاً عن إيذاء الآخرين إلا من قول الحق وبالتي هي أحسن.

 تدرج موسى يعقوب في مهنة الصحافة لمدة تجاوزت الخمسين عاماً لم ينحرف عن مساره الوظيفي ولا الرسالي، وهو يتنقل بين المواقع والأماكن وفقاً لمهنيته وكفاءته، وهو يعمل في مجال الصحافة المعني بمعالجة الأجندة السياسية وكشف المفاسد والجرائم، وهي إذا جاز التعبير أدق وظيفة احترافية مثلها والأجهزة الأمنية العسكرية، لكنه لم يتقاطع مع أي أحد ولم يحدث أن دخل في صراع مباشر أو احتكاك مع آخرين.

 تحرك موسى يعقوب بتربيته الإسلامية في الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما تحويه من متناقضات، لكنه ظل يحفظ المساحة بينه والآخر وبينه وبين الكثيرين متسع من الود بمساحة الوطن وتنوعه الذي بطبيعة الحال يعتمد على مفتاح الاحترافية التي يكتسبها الشخص من موروثه الفكري والتصاقه اليومي بالمجتمع لأن المجتمع بالنسب للداعية الإسلامي والصحفي هو مجاله الحيوي ورئته ونبضه الذي يعمل عليه ويحلله ويستنتج ما فيه ويشكل منه حجم دوره الإصلاحي وضبط إيقاعه.

 الحقيقة الواضحة للجميع اليوم أن الإسلاميين غادروا السلطة لكنهم يفترض أن يكونوا قد لجأوا إلى ملاذ المجتمع، ولم يخرج هذا المشهد الذي تم لهم والذي يراه البعض عبثياً مفاجئاً، وبعضهم يراه تواطؤاً مع الثورة، لكنه في مجمله لم يخرج عن السياق الطبيعي لدورات التاريخ ونزع الملك، ولن يكون آخر حادث ضمن المحن والتمحيص، وبعيدًا عن ثرثرة النخب وبعض الأجيال الجديدة للإسلاميين وصراخهم فيما لا يفيد حول الذي أصابهم وأدخل أكثرهم في صمت مريب وبعضهم لا يزال فزعاً غير أنه لابد من حديث حول الواقع سيما أن تكتلات إقليمية ودولية وصفقات وتعهدات قدمها شركاء لرعاية نظام الحكم الجديد في السودان، فهي فرصة لإحداث نقلة نوعية عالية الجودة لإعادة تعريف وكتابة المشروع الحضاري النهضوي من جديد انطلاقاً من جهل أو تجهيل الكثير من الأجيال الحالية حول المشروع الحضاري، وهم لا يعرفون مفرداته وتفاصيله فقط يقفون عند الكلمتين (المشروع الحضاري) سواء ذلك لا شيء فلابد من مراجعته وآليات تنفيذه حتى لا يروح المزيد من الضحايا كما حدث الآن، وصار المشروع ضائعاً ما بين صمت واختفاء وتساقط وتلاوم.

هنا لابد من صوت وصيحة تبلغ رسالة للشعب السوداني بأن أصحاب المشروع الحضاري رسل مجتمع يخدمونه بدون حاضنة السلطة، ولابد من اعترافات بأنه صحيح أن الإسلاميين قد استولوا على السلطة وقدموا الكثير، لكنهم أخفقوا كثيراً، وصحيح أن كثيراً من كوادرهم مؤهلة لإدارة الأزمات، لكنها غير مؤهلة بشكل كافٍ للتعامل مع المال والسلطة، وهنا حصل الفساد في المال والسلطة ولابد من تفعيل مبدأ المحاسبة ودعم الإصلاح الوطني، لأن أصل المشروع الحضاري هو مشروع إصلاح وتغيير وليس ساحة يتألم منها الإسلام بالضغط  والاتهام المتواصل والمستمر بالارهاب.

 أسئلة كثيرة جالت بخاطري وأنا أقف خلف الشيخ عبد الجليل الكاروري والجميع يقفون على شاهد قبر موسى يعقوب والكاروري يصدر الموجهات للبعض بالتعامل مع الجثمان برفق وضرورة أن يوضع تعريف وعلامة توضح أن هذا قبر فلان مثلما توضع الديباجات والعلامات التجارية، ثم يقدم الكاروري مولانا أحمد إبراهيم الطاهر بكل وقاره وتوقيره ليخاطب الناس حول مآثر الفقيد وأثره على الدعوة الإسلامية في السودان، كما تابعت صمت الشيخ أحمد عبد الرحمن رغم ضعف ووهن الجسم، لكن يتضح من سماته أنه غير منشغل بأثر الخطاب العدائي تجاه الإسلاميين، بيد أنه منفعل بدقة اللحظة وغياب المهارة الكافية للتعامل مع تعقيداتها.

 أما بروفسيور إبراهيم غندور الذي كلف بموقع الظهير السياسي، فقد بدا عليه أثر القلق والتنازع الداخلي حول من أين يبدأ، هل يبدأ بالإجابة علي تساؤلات البعض حول من الذي يحمل التفويض بمنح التكليف ورفعه في غياب أثر الحركة الإسلامية ام إنه سينزل إلى القاعدة التي أرهقت وهي تواجه نتائج الأخطاء والانفلاتات وضعف الخبرة لتحشيدها من جديد مستخدماً خبراته المتراكمة في تكوين مؤسسات وأجسام جديدة لملاحقة الأحداث والتطورات المتسارعة.

 ومن تجربة تحالف قوى الحرية والتغيير القصيرة ووفق معدلات الأخطاء وضعف المنتوج تكشف للرأي العام أن الإسلاميين برغم أخطائهم وتقصيرهم، إلا أنهم الافضل في الساحة وبقليل من التجويد والصدق يمكن أن يستردوا ثقة المجتمع فيهم وإعادة الأمل المفقود للأجيال التي تقف اليوم، وهي محتارة ماذا تفعل، وهذا يتعين أن ينفذ الإسلاميون إستراتيجية وطنية جديدة جامعة تناسب مرحلة ما بعد الثورة، وهي خطوات تبدأ بالاعتراف بالواقع والابتعاد عنه قليلاً حتى تتضح الرؤية والفرق للرأي العام السوداني ومواجهة التباسات السياسة الداخلية للتيار الإسلامي وممارسة فضيلة النقد الذاتي قدر المستطاع.

 إن الذي يشهد رفع العزاء في وفاة موسى يعقوب يكاد لا يجد من الحضور شخصاً يعرفه إلا محمد أحمد الفضل وعبد الماجد عبد الحميد وعبد الرحيم حمدي، صحيح في المقابر العدد كان كثيراً منهم عثمان الهادي، والعبيد مروح ودكتور محمد محجوب هارون، وكمال عبد اللطيف، وكمال عبيد، ود. ربيع حسن أحمد، وحسن عثمان رزق، وكمال رزق، ومحجوب عروة، ولكن جميعهم تلحظ في عيونهم أثر الاستغراق في الهم، وفي مواجهة ألغام الحالة الراهنة وحالة الطوفان المصنوع الذي أصاب كيان الإسلاميين وصنع درجة عالية من الرفض المجتمعي لهم، وهذه إذا لم تعالج فهي خطورة لأن المجتمع هو المجال الحيوي لإنزال  الفكر الإسلامي، فهو الآن أصيب بتشوهات وجدانية تجاه المشروع الإسلامي وبات مروعاً منه ومن وسائله حتى صارت العناصر الإسلامية حديث جرائم وفساد، وبذلك يصعب تحقيق أي نجاحات ملموسة في ظل الوضع الراهن ما لم تعالج بالخروج واستدعاء الأصوات وترك قاعدة السكوت الذي هو من ذهب لمواجهة المأزق من زاوية حقيقة المشروع النهضوي كرؤية واضحة الأهداف والمقاصد لتخفيف درجة حرارة الشارع السياسي الذي مورس فيه الذبح بالفعل على جميع الإسلاميين بلا استثناء وبتواطؤ غير معروف المصدر من الذين أساءوا الممارسة السياسية فالمجتمع ينتظر أن يفهم ولن يسمح بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، هذه حقيقة لابد أن يدركها الجميع، لكن الشارع نفسه مستعد لقبول الإسلاميين من دون صراخ، فقط ببرنامج واضح المعالم. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى