Site icon صحيفة الصيحة

في تذكّر جـــورْج جَــرْدَاق . .(1-2)

جمال محمد إبراهيم

رحل شاعر لبنانيّ رقيق العبارة لطيفها هو جورج جرداق في الخامس من نوفمبر 2014، وقد راسلني معزياً صديقي عمر جعفر السوري مشيراً أن الشاعر الراحل  سليل الغساسنة المبدع، ينحدر من مرجعيون من أزرُع في سهل حوران، بالقرب من بصرى الشام، حيث عرف الراهب “بحيرة” نبوءة الخاتم وقدره. أشار إليّ أيضاً أن من بين أهل مرجعيون السودانيين، آل راشد ومنهم ملك الفنادق الراحل، كيشو. . فما بين لبنان والسودان قافية وأكثر..

   وددت أن يشاركني القراء حزني على جرداق …ها أنذا أعيد ما نشرت عنه  في 29ديسمبر 2008، في حياته…

(1)

هَذهِ ليـــْلـتي وحُلمُ حيــــاتــي

بيـْنَ ماضٍ  مِن الزمانِ وَآتِ

الهـَـوَى أنــــتَ كلهُ والأمَاني

فاملأِ  الكـأسَ بالغرَامِ وهَاتِ

بعدَ حيــْـنٍ  يُبــدّلُ الحبُ  دارَا

وَالعصَافيرُ   تهجرُ الأوكَـارا

وَدِيــارٌ كانـتْ  قَـديـْـماً ديـــَارا

سَترَاها    كَمَا نرَاها    قِفـَارا

جورج جرداق هو ذلك الرقيق الذي منحنا متعة “كلثومية” مذهّبة اسمها:

“هذه ليلتي “.. 

قلت لصديقي الشاعر عالم عباس وقد حلّ ضيفاً عليّ في  بيروت أواخر عام 2008 : لِم لا نلتقي به؟ وانتفض صديقي فرحاً وقال لي ليتنا نلاقي هذا الشاعر الرقيق. .  وكنتُ أحدّث نفسي منذ قدومي للإقامة سفيراً للسودان في بيروت، أن يكون من بين من ألاقي هذا الشاعر الكبير، رقيق الحرف والحاشية، جورج جرداق. 

رتبتْ لنا مساعدتي ريما نوفل بهمّتها العالية، موعدنا مع جرداق، ولقد علمتُ منها صلة قرابته مع عائلتها، مما يسّر أمر اللقاء وقد كنا مُعجلين لظروف سفر صديقي الشاعر عالم عباس.

 في عصر ذلك اليوم الديسمبري الذي كان دافئاً، بخلاف أيامه الباردة المعتادة، ولجنا إلى مكاتب إذاعة صوت لبنان، حيث اتفقنا أن نلتقي هناك. في إذاعة “صوت لبنان”، يقدم الشاعر جرداق حديثاً إذاعياً أدبياً راتباً، عبر برنامج بلغ عمره أربعة وعشرين عاماً وعنوانه : “على طريقتي..”، يتناول فيه موضوعات اجتماعية وثقافية وسياسية، بأسلوبه الساخر البليغ المحبب . قال الشاعر إنه كان يسجله يومياً، ولكن أضاف مبتسماً، أنّهُ بمرور السنوات، أجبره رهق العمر لتخفيض الوتيرة  حتى صار الحديث مرتين كلّ أسبوع. 

(2)

        التقينا في طابقٍ علوي من بناية إذاعة “صوت لبنان”، في قلب الأشرفية، هذا الحي المسيحيّ الراقي في بيروت. ولدهشتي رأيتُ مبنىً عالياً بارتفاع ثلاثة عشر طابقاً، تحتله بكامله إذاعة “صوت لبنان” على موجة “الإف إم” في بيروت.  تذكرتُ أصدقائي في الإذاعة السودانية يجاهدون لجعل إذاعة “هنا أم درمان” مكاناً يليق بهيئة قومية تبث برامجها وتبسطها بطول أقاليم الوطن وبنواحيه القارية. نجحوا وبقدر كبير فيما عكفوا عليه. أما لبنان وبكامل امتداد مساحته الصغيرة، والتي  ليست بأطول من المسافة بين أطراف كرري شمالاً إلى أبعد بقليلٍ من القطينة جنوباً، فله أن ينعم بهذه الإذاعة “الإف إمية “، بمؤسسيتها وهيكليتها السامقة الراسخة.. 

       أخذنا الحديث الطليّ مع الشاعر جورج جرداق مقاصد شتى. تحدثنا عن اللسان العربي عندنا في السودان، وعن شعر السودانيين العربي غير المسموع. حدثنا هو عن شعره كما عن تقديره الخاص للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وانقطاعه لدراسة فكره العميق.  كتب جورج جرداق كتاباً من ثلاثة أجزاء عن الإمام عليّ كرم الله وجهه، تناول سيرته وفكره وآثاره جميعها بمحبّة وتقدير، وهو المسيحيّ الذي ينتمي لطائفة الروم الأرثوذكس، لكنه أيضاً ذلك العروبي، سادن إرثه اللغوي والأدبي وحارسه..

(3)

      قال الشاعر جرداق: “الغساسنة هم أسلافنا  نحن الأرثوذكس. العروبة فينا تاريخ راسخ وإرث حقيقي..” تأتي طائفة الروم الأرثوذكس في المرتبة التالية للمسيحيين الموارنة وهؤلاء يتبعون للفاتيكان، و”مارونهم” كنيسته الرئيسة في سوريا.

         قلت له: نحن نعرف عن طائفتكم حراستها لهذا الإرث التاريخي، فأنا لا أعجب حين أرى في لبنان الشعراء اللبنانيين وكثيرهم من الروم الأرثوذكس، من تبوأ مكاناً كبيراً في خارطة الشعر الغربي. نعرف الأخطل الصغير – بشارة الخوري. نعرف جبران خليل جبران وإليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس فرحات. قلت له إن الياس فرحات عرفناه في السودان وتغنى بقصيده مطربون سودانيون منذ الأربعينات من القرن العشرين. من منا لا يطرب لقصيدة “عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة”،  أو يفوتنا أن نتذكر شاعرها هذا الشاعر اللبناني العصامي الرقيق: إلياس فرحات؟ ولترسيخ ذلك التسامح وتلك السدانة التي يقوم بها مسيحيو لبنان للتراث العربي والإسلامي، نقرأ لإلياس فرحات المسيحي قصيدة في مولد الرسول محمد: 

غَمَرَ  الأرْضَ بأنْـــوارِ  النّبــــوَّة

كَوْكَبٌ  لَمْ تُدرِكَ  الشمْــسُ عُلوّه 

بَيْنمَا الكَوْنُ  ظـــــلامٌ دَامِــــــسٌ

فتَحَــتْ  فِي مَكّةِ  للنُّوْرِ كـــــَوّه

وعرفنا  الشاعر اللبناني العظيم سعيد عقل، والذي رحل بعد جرداق، وقد تغنى لمكّة  أيضاً: 

غنّيتُ مَكّةَ  أهلهَا الصِيْدا    وَالعيدُ يملأُ أضلعي عيْـدا

فرِحوْا فلألأَ تحتَ كلِّ سمَا   بيتٌ علـــى بيتِ الهُدَى زيدا

وَعلى اسمِ ربِّ العالمين   علا بنيانه كالشهبِ مَمدوْدا

يا قارئَ القرآنِ صلّ لهُ،  أهلي هُنـــاكَ وطيّبُ البيْــــدا

تغنت بها فيروز بلحن الرحباني، وكان ظن الكثيرين أن شاعرها مُسلم، لا ذلك الأرثوذكسي الفضيّ الشِعر والشَعر سعيد عقل.. ! 

     عرفنا في لبنان، أيضاً  منصور وعاصي الرحباني وأنشودة القدس بصوت فيروز الملائكي، وقد سكنت وجدان كلّ عربي. وعرفنا الصديق هنري زغيب، شاعرٌ لبناني مجيد رقيق الحرف، وسادن مُحدّث من ذات الطائفة لذات التراث. هل تنتهي القائمة بنقطة ليبدأ السطر من جديد؟  كلا! إنّ سهم الروم الأرثوذكس سهم جاء من قبل الغساسنة، واستمر عبر “الخلافات” الإسلامية، وهو منطلق عبر مسيرة التاريخ وإلى السنوات التي نحياها الآن في القرن الحادي والعشرين، لا يقف على نقطة أو يحجزه سـد.. جملة تتخللها فواصل ولكن لا تنتهي بنقطة..

Exit mobile version