ماري بانغيستو يكتب : هل يُمكِن أن يكون التكامل التجاري الأفريقي نقطة تحوُّل؟

 

16فبراير2023م

تخيَّل أن شركة منسوجات أفريقية كبيرة تريد أن تنشئ مصنعاً جديداً في بلد مجاور من أجل المساعدة على إنشاء سلسلة قيمة إقليمية لإنتاجها. على الأرجح ستستغرق الإجراءات البيروقراطية المرهقة للحصول على الموافقات اللازمة واستخراج رخصة مستثمر شهورا طويلة. وقد تجعل القيود المفروضة على التأشيرات من الصعب استقدام خبراء متخصصين لتدريب الموظفين المحليين، وقد لا يُسمَح لموظفين آخرين بالعمل لأن درجاتهم المهنية غير معترفٍ بها. وحتى بعد أن يبدأ تشغيله قد تواجه شحنات الشركة من المكونات عرقلة بسبب الاكتظاظ المروري في المعابر الحدودية، وازدواجية المعاملات الورقية، وجولات المعاينة والتفتيش التي لا حصر لها.

هذه مجرد أمثلة قليلة للإحباطات التي تصيب منشآت الأعمال التي تريد الاستثمار والاتجار من بلد أفريقي إلى آخر. فلا عجب أن الحدود بين البلدان الأفريقية تُصنَّف ضمن أكثر الحدود فرضاً للرقابة في العالم، وهو أحد أسباب الضعف النسبي للتجارة والاستثمار فيما بين البلدان الأفريقية .

على مستوى العالم، كانت التجارة والاستثمار مُحرِّكين رئيسيين للنمو في الاقتصادات النامية، وساعدا على انتشال مئات الملايين من الناس من براثن الفقر. بيد أن تشظِّي السوق الداخلية في أفريقيا يحول دون استفادتها بشكل كامل من هذا الاتجاه . وتهدف اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية إلى إحداث تغيُّر جوهري وأن تكون نقطة تحوُّل. فللمرة الأولى، ستُنشئ الاتفاقية سوقاً واحدة على نطاق القارة تجمع 54 بلداً وعدد سكانها مجتمعين 1.3 مليار نسمة وإجمالي ناتجها المحلي 3.4 تريليونات دولار. وستُقلِّص الحواجز أمام التجارة والاستثمار، وتعزز المنافسة، الأمر الذي سيزيد من جاذبية أفريقيا لسلاسل القيمة الإقليمية والمستثمرين.

وخلص بحث البنك الدولي إلى أن الاتفاقية يُمكِن أن تحقق منافع اقتصادية واجتماعية كبيرة تتمثل في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي وزيادة الدخول والحد من الفقر. وستساعد أفريقيا على تنويع أنشطتها الاقتصادية وتحويلها إلى التصنيع وتقليل اعتمادها على صادرات عدد صغير من السلع الأولية مثل النحاس والنفط والبن. وستكون النساء والعمال المهرة من بين أكبر المستفيدين وإن كان بدرجات متفاوتة بين البلدان.

 

لكن الكثير يتوقف على النجاح في التفاوض بشأن أكثر أهداف الاتفاقية طموحا ثم تنفيذها بالكامل. ويجب أن يصبح التنفيذ الفعال لالتزامات اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية على أرض الواقع أولوية لأعضائها. وسيتطلَّب هذا التزاماً سياسياً والتحلِّي بخصائص القيادة.

وتدريجيا، ستساعد المرحلة الأولى للاتفاقية والتي بدأ نفاذها في يناير 2021، على إلغاء الرسوم الجمركية على 90% من السلع وتقليل الحواجز أمام التجارة في الخدمات. وسيؤدي هذا وحده إلى توسيع التجارة وقد يزيد الدخل الحقيقي بنسبة 7% بحلول عام 2035، ويُقلِّص عدد من يعيشون في فقر مدقع بمقدار 40 مليونا إلى 277 مليونا، وذلك وفق ما خلص إليه تقرير للبنك الدولي نشر في عام 2020. وسيأتي قرابة ثلثي الزيادة المحتملة للدخول والبالغة 450 مليار دولار من منع حالات التأخير الطويلة على الحدود، وخفض تكاليف التجارة، ومن ثم تيسير انضمام منشآت الأعمال الأفريقية إلى سلاسل الإمداد الإقليمية والعالمية.

الآن تنظر دراسةٌ جديدة في اثنين من السيناريوهات لبيان أن المنافع قد تكون أكبر من ذلك إذا نظرنا لا إلى المنافع المتأتية من تحرير التجارة فحسب وإنما أيضا من زيادة الاستثمارات وتعميق الاتفاقيات التجارية التي تعالج قضايا الاستثمار ومشكلات التجارة داخل الحدود. يأخذ السيناريو الأول في الحسبان الاستثمار الأجنبي المباشر الإضافي الذي من المتوقع أن تساعد الاتفاقية التجارية على اجتذابه من داخل أفريقيا ومن الخارج. ويكتسي الاستثمار الأجنبي المباشر أهمية لأنه يجلب رأس المال والتكنولوجيا والمهارات. علاوةً على ذلك، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر يُؤثِّر على الاستثمار المحلي ويساعد على تنويع اقتصادات أفريقيا في القطاعات الجديدة للصناعات الزراعية والصناعات التحويلية والخدمات للأسواق المحلية فيما بين البلدان الأفريقية ومع العالم الخارجي. وفي هذا السيناريو قد يزداد الدخل الحقيقي أكثر بنسبة تصل إلى نحو 8% في عام 2035 (506 مليارات دولار)، وينخفض عدد من يعيشون في فقر مدقع بمقدار 45 مليونا.

يتناول السيناريو الثاني الأثر المحتمل إذا تم توسيع نطاق الاتفاقية كما هو مزمع للتنسيق بين السياسات بشأن الاستثمار والمنافسة والتجارة الإلكترونية وحقوق الملكية الفكرية. فمن شأن زيادة التكامل في هذه المجالات أن يساعد على إقامة أسواق تتسم بالنزاهة والكفاءة، وتحسين القدرة على المنافسة، بل واجتذاب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر من خلال تقليص مخاطر تغيير اللوائح التنظيمية والسياسات. وينطوي هذا السيناريو على تحقيق زيادة في الدخل الحقيقي قدرها 9% بحلول عام 2035 (571 مليار دولار) وتقليص عدد من يعيشون في فقر مدقع بمقدار 50 مليونا (انخفاض نسبته 16% عن العدد المتوقع للفقراء المدقعين في 2035 في غياب اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية).

غير أن الاتفاقية تواجه عدة تحديات. فالقطاع الخاص الأفريقي بما في ذلك منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي قد تستفيد من هذه الاتفاقية يجب أن تصبح أكثر إلماماً بمختلف أبواب الاتفاقية وأن تتعلم كيفية الاستفادة من الموضوعات التي تتناولها مثل تحرير تجارة الخدمات لتعزيز أعمالها وأنشطتها. وهذا ما حدث في أمريكا الوسطى حيث أصبح القطاع الخاص مُنظَّماً في إطار (منظومة التكامل بين دول أمريكا الوسطى)، وهي اتحاد لغرف وجمعيات المُصدِّرين يتابع بانتظام تنفيذ الالتزامات التجارية.

ومن المتوقع أيضا أن تشهد منشآت الأعمال الأفريقية فرصاً سانحة لا أن تكتفي بردة الفعل خوفاً من المنافسة المستوردة . وبالإضافة إلى وزارات التجارة المعنية بالمفاوضات، يجب أن تصبح المؤسسات الحكومية الأخرى في كل بلد أيضا على دراية باتفاقية التجارة الحرة وأن تتفهم الدور الرئيسي الذي قد يتعيَّن عليها أداؤه في تنفيذها على أرض الواقع. ولمعالجة العقبات والحواجز غير الجمركية التي تؤثِّر على انتقال السلع عبر الحدود أهمية بالغة. والأمر كذلك لتقليص الحواجز أمام تجارة الخدمات لأن لكل بلدٍ لوائحه التنظيمية الخاصة به التي تُغطِّي صناعات مثل الخدمات اللوجستية والنقل والخدمات المالية والسياحة والاتصالات.

 

وهكذا، فإن توقيع الاتفاقية هو مجرد الخطوة الأولى. وسيتطلَّب الأمر أكثر من ذلك بكثير لإطلاق العنان للمكاسب المحتملة لاتفاقية التجارة الحرة في مجالات التجارة والاستثمار. والوظائف. وسيتعيَّن على البلدان الأفريقية مساندة الأمانة الدائمة لاتفاقية التجارة الحرة -ومقرها أكرا في غانا- والمكلَّفة بإدارة شؤون الاتفاقية. وسيلزم المواءمة بين القوانين واللوائح التنظيمية المحلية وبروتوكولات الاتفاقية في مجالات الاستثمار وحقوق الملكية الفكرية والمنافسة والتجارة الرقمية . ولتذليل التحديات الهيكلية القائمة منذ وقت طويل، سيتعيَّن على البلدان الأفريقية أيضاً القيام بما يلي:

 

تشجيع التحرير التدريجي للتجارة العابرة للحدود وسياسات الاستثمار وفقاً لبروتوكولات الاتفاقية من أجل إرساء الأساس لسلاسل القيمة الإقليمية في أفريقيا؛

تبسيط الإجراءات الجمركية والمعاملات على الحدود، وتحديث البنية التحتية من أجل تقليص حالات التأخير الطويلة على الحدود التي تُبطِئ انتقال السلع وتزيد تكاليف التجارة، وإقامة مراكز فعالة للخدمات اللوجستية؛

تدعيم التجارة العابرة للحدود والاستثمار في الخدمات عن طريق تسهيل التجارة في الخدمات الرقمية، وإزالة القيود على الاستثمار الأجنبي المباشر، وتحرير انتقال الأيدي العاملة.

ويعود الأمر الآن إلى الدول الأعضاء وقادتها للعمل بالتعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني من أجل أن يصبح ما تُبشِّر به اتفاقية التجارة الحرة في نهاية المطاف نقطة تحوُّل لأفريقيا وحتى تجني شعوبها ثمارها الكثيرة.

  • المديرة المنتدبة لشؤون سياسات التنمية والشراكات بالبنك الدولي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى