الحاج أحمد المصطفى يكتب: وداعاً.. هنا لندن!!

 

عندما حانت الساعة الواحدة ظهراً بالتوقيت العالمي (جرينتش) الثالثة عصراً بتوقيت السودان، بالأمس الجمعة توقف بث القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية بعد أن قررت الحكومة البريطانية إيقاف الخدمة بعدد من اللغات من بينها العربية لأسباب اقتصادية.
هنا لندن لي معها قصة تحتاج أن تروي فهي التي حببت لي العمل والرغبة في دخول الإذاعة السودانية.. ففي ثمانينات القرن الماضي وفي مدينتي الحبيبة الدويم ونحن وقتها صغاراً نتحسس أقدامنا في المرحلة الابتدائية لفت نظري صوت ضخم يصدر من منزل جدي (السيد مختار) أنزل الله على قبره شآبيب الرحمة
فقد كان يجاورنا في السكن بالحي الثامن وكغيره من أهلنا الرباطاب الذين اشتهروا بالتجارة في الدويم واتقنوها حتى صاروا مضرباً في الأمانة والتعامل والخلق الرفيع.. أقول كان جدي منضبطاً في وقته.. يعود من متجره عصراً لتناول وجبة الغداء (عندما كانت وجبة برلمانية تجتمع فيها العائلة…ليبدأ في الاستماع لإذاعته المحببة بعد المغرب ومن جهاز راديو ضخم يعمل بالبطاريات لم أجد مثيله إلا في مدينة الفاشر بشمال دارفور عند زيارتي لها قبل عدة أعوام.
كان ذلك الجهاز الضخم يبث لندن على الموجة المتوسطة 639 والموجات القصيرة (41).و(19) و(16)..ليأتينا صوت ماجد سرحان الفخيم وأيوب صديق ..بكلمة هنا لندن بعد دقات بق بنج التي أجزم أن راديو جدي كان يوصلها لآخر الحي من قوة صوته (العالم هذا المساء) الثامنة مساء عندها جذبتني الإذاعة لمتابعتها والحرص على الاستماع إليها وكم مرة ضبطت وأنا أقف لساعات بجانب الجدار الفاصل بيننا وبين منزل جدي وأنا في حالة طرب لصوت الراديو وإذاعته البريطانية ..حتى طلبت من والدي (عليه رحمة الله ) أن يشتري لي راديو وقد كان بعد أن علمت استحالة مشاركته في جهازه العتيق أيضاً …..كانت لندن مصدراً للأخبار (لندن قالت ) الكلام انتهى عند السودانيين…تابعنا واستمتعنا بحسن الكرمي قول علي قول ….وأنت تسأل والسياسة تجيب ….وندوة المستمعين والفترات الإخبارية المشبعة بالأخبار والتقارير ..فسمعنا نجوى الطامي ورشاد رمضان …وعيسى صباغ ..وجميل عازر.. ومديحة المدفعي ..وافتيم قريطم في الرياضة..وسالم كايد العبادي…وقبلهم المذيع السوداني إسماعيل طه .
…نور الدين زرقي…محمد الأزرق..وفاروق الدمرداش..محمد الصالح الصيد ..والسودانية رشا كشان …كنا نلتف حول الراديو والعراق يدخل الكويت في العام 1990 لنتابع أحداث ذلك الغزو الذي لم تذق الأمة العربية بعده عافية ….استمرت علاقتي ببي سي العربية وأنا أدخل إلى أستوديوهات الإذاعة السودانية قبل ثلاثين عاماً، فحببت لي الأخبار واستمر هذا الحب حتى اليوم..لنتابعها وهي تبث عبر موجة اف ام .90.6 في العاصمة الخرطوم فنسعد بالزميل عمر الطيب وهو يجري اللقاءات ويقرأ النشرات بصوته العالمي.
تغمض (هنا لندن أعينها) يوم الجمعة القادم وترحل تاركة الحسرة ..والحزن في نفوس مستمعيها..بعد أن ظلت لأكثر من ثمانين عاماً، إذ تم تأثيثها في الأول من مارس 1938 ظلت تقدم لهم وجبة إذاعية دسمة ..فيها الأخبار والفن والموسيقى والسياسة والثقافة والمنوعات حتى الأطفال كانت تقدم لهم مايطلبونه..لم تؤثر فيها القنوات التلفزيونية التي أتت من بعدها بل قامت واستفادت من إرثها التليد….وداعاً…هنا لندن لقد كنت صديقة للجميع صغاراً وكباراً بماتقدميه..واثق أن تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية لن يملأ الفراغ التي ستتركينه في نفوس محبيك…وداعاً هنا لندن فعالمنا اليوم لم يعد فيه إلا القبيح، أما الجميل المعتق فقد حكمت عليه الحكومة البريطانية بالفناء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى