بستان الحلنقي

 

(1)

كثيرون لا يعلمون أن شاعر (صه ياكنار) محمود أبوبكر، كان من أصل ينتمى إلى قبائل الحلنقة في الشرق، ما يؤكد أن الإذاعة السودانية عرفت اسمه قبل أن تتعرَّف على اسمي، وقد كان القدر كريماً معي حيث أتاح لي فرصة اللقاء به في آخر أيامه. قلت له مرة أسأله: إن أحدهم روى لي أنك تعتقد أن تناول فاكهة البرتقال حرام عليك باعتبار أنه تحايل على زوجتك فأخذ لونها، ابتسم قائلاً: نعم حدث ذلك بالفعل لقد توقفت عن تناول فاكهة البرتقال بعد زوجتي مباشرة عزّ علىّ أن أمد يدى إلى برتقالة أقطعها بسكين تقديراً للونها الذي يشابه لون امرأة أحببتها. ذكرني هذا المشهد بالشاعر الذي كتب (فارق لا تلم) أحمد محمد الشيخ، حيث قيل إن إحدى شقيقاته قامت بأهدائه عمامة في يوم عيد إلا أنه أضاعها ذات يوم ماطر فلم يضع عمامة على رأسه بعدها قط إلى أن غاب في الزحام.

(2)

شهدت مدينة الأبيض قصة أستاذ يعمل في إحدى المدارس الابتدائية تقدم للارتباط بحسناء أحبها إلا أن أهلها رفضوا الارتباط به مدعين أنها تود أن تواصل تعليمها. بعدها بأشهر وصله كرت دعوة أبيض موشى بخيوط فضية إشار إلى زواجها من أحد أثرياء المدينة فأحترق قلبه غيظاً وهو يضمر في نفسه أمراً قام هذا الأستاذ جريح القلب يصحبه عدد من تلاميذ مدرسته إلى احتفالية العرس وانتظروا هناك بين المدعوين لاستكمال مراسم الحفل بعد لحظات انساب صوت المغنى يغمر ليل الأبيض طرباً عدت الأغنية الأولى بسلام أما الأغنية الثانية فقد شهدت ثورة من الغضب العارم أشعلها عدد من تلاميذ الأستاذ على أهل العروس الرافضين له عريساً لكريمتهم ما أدخل الحفل في هرج ومرج تسبب في كسر أنف العريس وقد نتج عن ذلك أن يلزم سرير المستشفى عدداً من الأيام.

(3)

لم يلمس الدكتور الشاعر الراحل محمد عثمان جرتلي، بندقية صيد كان يملكها بعد أن أصاب بها غزالة حبلى أرداها قتيلة، وذلك أثناء رحلة صيد قام بها على أطراف مدينة كسلا، وقال إنه حين نظر إلى الغزالة تحتضر اعتراه ألم في قلبه ظل يلازمه مدة شهر كامل، وأضاف أن ما قامت به يده من ظلم أدى إلى قتلها قبل أن تلد جنينها كاد أن يقتله هو ثم سرح بعيداً وهو يمسح دمعة.

(4)

تمنيت أن تطول إقامتي بين أحضان مدينة كسلا حتى أتمكن بالقيام بعملية غسل كامل لمشاعري التي علق بها ما علق من أوحال نتجت عن معارك خضتها في غربة طالت خرجت منها بقلب لم يعد قلبي الذي أعرفه أبيض مثل حليب الأمهات، بل أصبح قلباً آخر فيه من الجراحات ما يجعله يبحث عن براءته الأولى في مدينة كسلا التي تعلمت منها الخناجر تتحوَّل إلى واحة من الأزاهر.

(5)

العلاقة بين تقدُّم السن والعطاء.. معين لا ينضب أم يباس بلا ارتواء – العطاء بالنسبة لي استمر بعد الستين بدليل أنني إلى الآن أكتب الجمال واحتمال أن يكون الجمال هو الذي يكتبني، أنا منذ سنوات طويلة جداً أقول إن الفضل يرجع لكسلا التي خلقت فيَّ مكوِّنات جمالية، سحب مستمرة العطاء، جبال مخضرة طوال العام، قلوب تنضح طيبة وجمالاً ارتويت منه وفي رأيي أن أي إنسان في كسلا لابد وأن يكون بالضرورة شاعراً إذا لاحظنا أنها البلد الوحيد التي لم يزرها شاعر إلا وكتب قصيدة في هذه الحسناء الشرقاوية التي عشقت جبال التاكا وظلت وفية لها وستظل ما بقيت الشمس تشرق من الشرق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى