خربشات الجمعة

   (١)

في يوم الخميس يتسلل الفرح للنفوس دونما أسباب واضحة ربما كانت لتربية الداخليات أثر في ذلك، حيث يطلق سراحنا بعد كل أسبوعين لزيارة الأهل وقضاء يوم الخميس في أحضان الأمهات، والعودة مساء الجمعة بشروط أهمها حضور تمام ما قبل المغرب، ومن يتخلف عن التمام ويتم تسجيله غائباً عليه انتظار أمسية السبت لجلده خمسة (سوط) بلا رفق أو شفقة، من قبل مشرف الداخلية الذي يحضر تمام السبت لمعاقبة الغياب، ونحن أطفال في مدرسة الدبيبات الابتدائية كان المعلم والمربي طه أبو النجا رجلاً فظ القلب يعاقب الأطفال بقسوة بالغة بينما كان الأستاذ محمد البدوي رقيقاً مهذبًا تربوياً حليماً بالطلاب يرفض معاقبتهم إلا لأسباب موضوعية.

في يوم الخميس كانت الفرحة طاغية وسط الطلاب القادمين من القرى البعيدة مثل قرية جويكاية التي يمنح طلابها إذناً بالسفر سيراً على الأقدام منذ نهاية دوام الأربعاء ليعودوا مساء السبت، والرحلة من الدبيبات لجويكاية تستغرق ثماني ساعات سيرًا على الأقدام، وتمنح المدرسة أذونات لطلاب المناطق البعيدة مرة واحدة كل شهر، أما المناطق القريبة فخمسة عشر يوماً، وكان الطلاب القادمون من محطة (الفينقر) التي تبعد عن الدبيبات ثمانية عشر كيلو متراً يمشونها سيراً على الأقدام لأنها كتب عليهم يتم إعفاء طلاب الفينقر من تمام الجمعة، ولكن بقية القرى من كركرة كنانة والسليك والميع والنقارة والدبيبات يونس التي تنقسم لأولاد يونس كنانة وأولاد يونس برنو، والأخيرة كانوا في ذلك الزمان يرفضون انخراط أبنائهم في التعليم الحكومي بحجة أنه يفسدهم أخلاقياً، ويبدل دينهم، ويعلمهم لبس البنطلون وشراب السجائر وسب الدين والغناء مع إبراهيم عوض اغنية سلوى التي يردد من خلفه المنتشون مع الموسيقى الصاخبة (وراء).

وقد احتفظ أهلنا البرنو والهوسا بتقاليدهم طويلاً يعلمون أبناءهم في الخلاوى يحفظون القرآن وعلى الطريقة التجانية يهتدون، ولحزب الأمة يصوتون حتى دخلت عليهم الجبهة الإسلامية، فانخرطوا في صفها متقدمين على غيرهم .

           (٢)

يوم الخميس، ورد في ديوان عبد الله حمد شوراني الشهير بأمير شعراء البطانة حينما قال :

يوم الخميس لاقاني الوضيبو مسرّح

بسمة معاه لمن فؤادي تجرح

يا ود النعيم أبت الظروق تتصلح

نعود للعندها أتقفل الجمال واتارخ

والعودة لداخلية الدبيبات في سبعينات القرن الماضي حملنا إليها الاخ الدكتور بشير إدريس محمد زين الذي يكتب بلغة رصينة ويتسامى عن العنف اللفظي المؤذي للآخر مما جعله في مقام المتفق على حسن تعامله مع الآخرين، وقاد بنجاح مشروع إعادة تعمير مدرسة الدبيبات الابتدائية في العام الماضي، رغم انتماء د. بشير إدريس للمعارضة الإسفيرية وتجمع المهنيين، ولكن بأمانة لم أستبن حتى اللحظة حزبه الذي ينتمي إليه، رغم أن أسرته الكريمة أكثريتها من أنصار حزب الأمة لتأثير الدكتور حامد البشير على المنطقة برمتها رغم تغلغل التيار الإسلامي في السنوات الماضية وسط القرى المتناثرة لى رمال القوز .

كانت الداخلية في سنوات السبعينات محفزاً لأبناء الفقراء من أمثالنا لمواصلة الدراسة بدلاً من رعي الماعز والضأن والأبقار والعمل (كأجراء) للأثرياء نظير خمسة نعاج يتسلمها والدك نهاية العام، ثمناً لعمالة الطفل، وتلك سنوات وأمكنه لم تسمع بعد بحظر الأمم المتحدة لعمل الأطفال وفرض عقوبات على الدول التي تسمح بمثل هذا النوع من الخرق للحقوق.

في الفصل السادس والخامس وطلاب المدرسة المتوسطة كنا نختلس البهجة ونتسلل إلى مدينة الدلنج عروس الجبال حينذاك، قبل أن تقتل الحرب العروس وتشرد العريس، وفي الدلنج تشغل بالنا ثلاث مهام تناول الباسطة أمام والسينما وحضور الفيلم الهندي وإيجار عجلة لمدة ساعة من العجلاتي كلتكس، تجوب بها أحياء قعر الحجر والرديف والقوز والطرق، وأنت تهرول بين الأحياء تختلس النظر لبنات المدينة تشعر بالزهو و(الفنجرة ).

ولكن، بعض منا كان يدخر قليلاً من المصاريف لزيارة مكتبة الجبال الثقافية والتأمل والاطلاع على عناوين الكتب التي يأتي بها الراحل محمد عبد الله صفراوي.

بفضله ومكتبته قرأ جيلنا لمحمد عبد الحليم، إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ ويوسف السباعي.

وكان قطار نيالا يحمل في جوفه أيضاً مكتبة توزع مجلة العربي والدوحة وأكتوبر وسمر وصحف الأيام والصحافة، ونجوم وكواكب، ولكن من كان يغشى القطار لشراء الصحف نفر قليل لا يتعدي الراحل مختار حسن الأمين ومحمد الأسباط الذي كان يطلب الأغاني من إذاعة إثيوبيا، ولأنه من أسرة ثرية ووالده من تجار المدينة كان يستطيع شراء الصحف وكذلك الشريف عبد الرحمن وابنه الدكتور عبد الرحمن الشريف، أما نحن فنطالع الصحف خلسة في بيت المربي مختار حسن.

                     (٣)

مرت سنين وأيام، وبقيت تلك الذكريات محفورة في مخيلتنا عن الدبيبات محطة القطار الشهيرة والتي كان العطش وقلة الماء سبباً فى عدم نهضتها وتطورها وكان الماء يجلب بعربات الكارو من دونكي وحيد بالدبيبات يونس على بعد ٥ كيلو مترات من المدينة، وكانت المدرسة تشرب بواسطة (الأخراج)، وهي جمع خرج بضم الخاء ويصنع من أنبوبة اللساتك الكبيرة ومن جلود البقر، ويحمل الخرج على ظهر الحمار، ويمشي الخراجي خلف حماره كل تلك المسافات البعيدة.

ومن أشهر الأعمام الذين (أسقونا) الماء العم الراحل جابر، والشهيد أحمد بديري الذي ترك مهنته وحمل بندقيته استجابة لداعي الجهاد فلقي ربه بنيته وسلامة فطرته وصدقه مع نفسه، أما (الخالات) اللاتي كن يصنعن لنا الطعام من العصيدة وملاح اللوبيا والمصران والتقلية كانت أشهرهن الخالة الدخيرة والخالة عائشة التي اشتهرت بتدخين السجائر البحاري، ولكنها كانت ودودة مع الطلاب يستدينون منها الجنيه والتعريفة حتى يوم عودتهم من العطلة الأسبوعية.

مضت تلك الأيام وتوارت خلف عجلات قطار الزمن، وأضحت مجرد ذكريات نجترها في جلسات الأنس حينما نلتقي بمن فرقتنا معهم دروب الحياة وشعابها

نتذكر تلك الأيام ولا نُلقي بالاً لقول شاعرنا إسماعيل حسن

يا قلبي أنسى الفات

وعيش من تاني وحداني

لو حنيت لعهد الشوق

أجيب من وين عمر تاني

يا قلبي شفت الويل

وليل السهد بكاني

بعد ما تبت من النار

حرام تتجدد أحزاني

وكل جمعة والجميع بخير..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى