علي مهدي يكتب : جائزة حُرية الإبداع العالميّة إشارةٌ وعلامةٌ لحُسن الظن بأدوار الفنون في بناء التفاهُمات الإنسانيّة

15 اكتوبر 2022م

الجوائز الإبداعيّة فيها من التقدير للفنانين والفنون، لكنها الإشارة الأوجب للبناء الماتع لقُدراتها على التغيير

مهرجان البقعة الدولي للمسرح جسر التواصل القطري والإقليمي والدولي.. يفتح بوّابات الوطن ويُعزِّز التعاون لما بعد الثقافة والفنون

عُدت يا سادتي كما يكون لي الأمر أوّل مرة، وفي كل الأوقات، أمشي صباحاً باكراً نحو البحر، و(بحر أبيض) عندي هو الاسم الواحد، ولا يحتاج تعريفاً، هو البحر الفسيح، ولم أفهم في كل الأوقات، لما هو أبيض؟ كل المياه عندي بيضاء ناصعة وفي طرفها زُرقة، ليس في كل الأوقات، ولا الأماكن، لكنها تُحيط بنهايات المكان المُمكن، ليتسع أوقات الفيضان. وسمعت جدتي آمنة تحكي، نعم لها من الحكايات ما شكّل عندي مُستويات مُختلفة للمعارف، تمشي بي وقت ما تشاء نحو النور، وغير ذلك بترتيب تعرفه هي، ودوماً كان يحقق النتائج، أذكر صوتها وأنا أقف مع الأحباب ننتظر النتائج للفائز بجائزة (حرية الإبداع العالمية) في ساحة القلعة التاريخية بالقاهرة التي نحب ونعشق، كنا أربعة، المرشحون الآخرون للفوز مثلي، فرقة مسرحية من أفريقيا، وكاتب وشاعر مسجون في (الفلبين)، جاء من يمثله، والصديق الكاتب والشاعر المسرحي السويسري (تابيوس بيانكوني) المدير التنفيذي للهيئة الدولية للمسرح ITI/ يونسكو، وهو من تابع الأمر، ولم أكن وقتها أعرف من رشّحني ومسرح البقعة، وقد وصلنا الثلاثة الحاضرين ذاك المساء للمرحلة النِّهائيّة من بين الآلاف من المُرشحين، كانوا يترجّلون كلما أقرّت لجنة التحكيم الدولية استبعادهم، وتقليص عدد المُرشّحين، ولم أكن وقتها أعلم شيئاً عن الترشيح، مَن رشّحني؟ وقائمة المُرشّحين؟ وهم كُثرٌ يومها، ويُمثلون قطاعات مُتعدِّدة ومُتنوِّعة من أهل الفكر والإبداع من أنحاء المعمورة، الراجح أنّ جهات مُقدّرة، مؤسسات إعلامية، ومنظمات إبداعية وجامعات وبينهم أهل الفنون والإعلام، وكانت اللجنة الدولية للحكم تضم وقتها علماءً من أهل الثقافة والفكر والإعلام والسياسة، وأنا ولا على بالي، فقط وفي وقت وقبل سفري للقاهرة لحضور إعلان النتيجة، أُخطرت بأنني ومسرح البقعة والتجربة التي انطلقت من مدينة (ملكال) لاستخدامات الفنون الأدائية (المسرح في مناطق النزاع) من بين الآلاف من المُبدعين من أنحاء العالم مُرشحة، وإنني قاب قوسين من الحصول عليها الجائزة العالميّة، وأقلها أنّني وصلت للقائمة النهائية والتي تضم ثلاثة مُرشّحين، ووقفنا بعيداً عن الجمهور، والمسرح الحديث في القلعة التّاريخية تضئ جوانبها، بسمات وملامح عدد من بعض اهل الإبداع السوداني في القاهرة، وعلموا وجاءوا، ثم فنانين أصدقاء من مصر الحبيبة حضروا، والمشهد والحدث عالمي، تم الترويج له بإتقان (جائزة حرية الإبداع العالمية)، نعم الاسم رنّان، ويغازل أهل السياسة قبل الفنون، وله قصة وحكاية وأخريات، شرحت لنا المديرة التنفيذية للجائزة العالمية لحُرية الإبداع التدابير التي ستكون سَيّدة الليلة، وإن واحداً منا نحن الثلاثة سيكون الفائز، وإننا سنجلس إلى بعضنا البعض ومعنا للجوار من كان تقدم بمقترح ترشيحنا، وهم كثرٌ، ولكنهم وجّهوا الدعوة لواحد، ثم انتظرت ما تقول، وهي تحكي بحماس مع الابتسامة. سيّدة أنيقة، والوسامة عندها علامة، والجمال إشارة، كانت سعيدةً، وظنت من ملامح الفرح الدفّاق أنها الفائزة لا المديرة العامة لواحدة من أكبر الجوائز العالمية، وكان مقرها (سنغافورة) وإن أعلنت من (لندن). كل كلمة وأخرى تقتلني بنظرة، وأخرى تحيي. وخرجت روحي منها القلعة البهية المرئية من كل الاتّجاهات، وهي تحتفي بي شخصياً والبقعة المُباركة، الفكرة والتجربة والمُبادرة. خرجت روحي مني، تركت لهم جسدي وعِمّتي الخضراء في القاهرة تلك الساعة، اللحظة، الجُزء من الثانية، وبين كثرها وكلها. وقفت في الطريق إلى سوق مدينة (ملكال) عاصمة ولاية أعالي النيل يوم كان السودان واحدا، والشارع الفسيح يحملني وأولادي (أبناء الشوارع) كما قالوا عنهم قبل أن يدخلوا معسكر إعادة البناء، عاد أولادي تلك الظهيرة من أول زيارة لهم لقرية الأطفال SOS ملكال، أمضينا اليوم عندهم نشارك البناء في أكبر (قُطية) مصنوعة من الأخشاب والقش وحبال صبر، وروح عالية للبناء والتعمير، بعد سنوات القتال والحرب، وقلت يومها بعد ان غنينا ورقصنا ومثلنا بكل لهجات القبائل في المنطقة، هذا (مسرح بين الحدود) هذا مسرح من أجل الإنسان، (مسرح في مناطق النزاع) مسرح للناس كل الناس.

وأعادتني روحي لها، القاهرة التي احتفت بي وتجربة منحتها وقتي، وأعطتني هي أجمل الفُرص، لمُبدع ومُبدعين انتقلوا بالقدرة، وفيها قُدرة الفن وسحر الجمال إلى مسارح الدنيا فن ورسالة. ثم أنظر، كم عرضت على مسارح العالم، وبعدها كم جائزة حصلت عليها. وما أجمل الجوائز تُحيلك إلى طفل وأنت تمشي نحوها المنصّات لتستلمها، وفي المسافة تمر بالتصاوير البديعة، كيف كنت؟ وأين أنت؟ ومن أين أتيت؟ نعم من أين أتيت..؟

في الطريق للمنصة تمشي أو تعدو، لكنك تحسن الهندام، لتبدو بكل الهدوء واثقاً تمشي ملكاً، نعم تلك أوصاف ذاك الزمان قبل استلام أي جائزة، هي كذلك للفن لا لشخصك.

وعُدنا وجلسنا في أماكننا، وقبلها مررت على الأحباب، جمهور كبير سمعوا وعرفوا وكلموا بعضهم بعضاً، إن سودانياً وفنّاناً مسرحياً من بين ثلاثة مرشحين لأكبر جائزة عالمية للفنون ستعلن من القاهرة، من قلبها من قلعتها التاريخية.

وابتدأ الحفل البهيج، وأنا بين بين، لكن في خاطري مَشاويري بين الخرطوم ومدينة (ملكة)، ثم بينها ومُدن فيك يا (دارفور) ثم أعود أسمع، لحظة التاريخ يتوقّف، ليسمع لحن الأفراح الوردية، أعلم. الفائز الثالث، ثم الثاني. ثم صمت، جاء بالأهواء كلها عند مسمعي، الفائز بجائزة حرية الإبداع لهذا العام، وقالوا كلاماً كثيراً، حكوا ماذا فعلنا، وأين ولماذا وكيف، ثم بالتحديد قالوا الأسباب الموجبة لمنحي ومسرح البقعة لجائزة حرية الإبداع لذاك العام. فسمعت صوتها بين المُهنئين كان صوت جدتي وأمي (آمنة محمد علي صالح) الدنقلاوي من(كابتوت) غير بعيد من (مراغة) في (دنقلا)، وبيتهم جوار النيل.

قالت بكل جمال وقوة الصوت الرنان مشي منها مدينة (شجرة محو بيك، شجرة غردون) والصائب أنها شجرة الإمام المهدي عليه السلام (مبروك يا يا ولدي إن شاء الله ما آخر فوز) ولم أفهم إلا بعدها بسنين تلك الجملة والمعاني خلفها (ما آخر فوز) لقد مكثت منذ العام 2006 عضواً منتخباً في الأجهزة العليا لأكبر منظمة للفنون. قادتني لسنوات بحلمها الوسيع كان فيه من الفُرص الكثير يتّسع للجميع، وهي تحكي تفصل بين شخوص الحكاية، فتمد في بعض حروف الكلمات لتعطي معان مغايرة هي تقصدها، وتفرح بردود فعل مُستمعيها. وكنا عدداً طيباً لا تنفع الحكاية بغير الناس، وكنت بين الناس أكثر من حفيد، فعرفت معنى التخصيص في التشخيص. وعرفت معنى أن تُحظى بالتقدير عبر الجوائز وما أحسنها من تقدير، وأخزنها عندي، تزين صالون بيت مهدي، كلما التقينا أنظرها بين التصاوير، ثم في العام التالي عيّنوني عضواً في لجنة التحكيم الدولية لجائزة حرية الإبداع، ذهبت إلى جنوب أفريقيا، جلست هناك لأيام، وكان من مسؤولياتي أن أُقدِّم الجائزة للفائزة بها. ثم مشيت نحو المدينة وذهبت إلى الجزيرة، حيث حبس الزعيم (مانديلا)، وتلك حكاية جائزة أخرى عنها احكي، لأن في معانيها الكثير من ناحية تقدير الفن والفنانين.. ثم اننا ننتظر البقعة المباركة بجوائزها.

نعم.

وكل عام وأنتم بألف ألف خير

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى