أبو بكر فضل محمد يكتب : جدلية التطبيع بين السودان وإسرائيل

9 اكتوبر 2022م

سعت إسرائيل منذ نشأتها لتطبيع علاقاتها مع السودان لأهمية السودان الجيوستراتيجية في منطقة البحر الأحمر وحوض النيل، وجرت عدة محاولات لتطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية، ولا يزال الجدل يدور في السودان حول طبيعة هذه العلاقات بين مؤيدين ورافضين.
وقد تناولت أدبيات العلاقات الدولية مصطلح “التطبيع” ضمن إطار “الانتقال بين دولتين من حالة خلاف جوهري – أو حالة حرب – إلى بناء علاقات طبيعية”. وهو ما يعني تجاوز ما كان يعيق ترسخ العلاقات الطبيعية بينهما، إما بحل المشكلات أو تجاهلها أو قبول طرف بشروط الطرف الآخر. كما أن مصطلح التطبيع لا ينحصر فقط في محدد إقامة علاقات طبيعية بين الدول، وإنما قد يعني قبولَ دولةٍ معاييرَ دولةٍ أقوى منها في تحديد ما هو الطبيعي، بمعاييرها المصلحية التي تراها طبيعية. وتحدد المعاهدات التي تبرم ما بين الدول المتحاربة –أو التي تسود علاقاتها خلافات وصراعات طويلة ومديدة- أسس التطبيع، وما الذي تعنيه “إقامة العلاقات الطبيعية” بين الدول. وهي تخضع لموازين القوى بينها، كما تخضع لمدى رغبة الأطراف في تجاوز مسببات الصراع وغيرها. وعليه فإن التطبيع ليس مفهوماً ثابتاً، بل هو مفهوم متحرك يتأثر بالعلاقات بين الأطراف المختلفة وتفاعلاتها، سواء كانت على مستوى الأفراد أو الدول.

وقد كان (ولا يزال) مصطلح التطبيع مع إسرائيل أحد أكثر المصطلحات إثارة للالتباس والجدل، وسط الشعوب والدول العربية والاسلامية انطلاقاً من جدلية التعاطي مع إسرائيل وسياساتها واستراتيجياتها في ظل القضية المحورية في المنطقة – وهي القضية الفلسطينية وآفاق حلها، وعلى الرغم من ذلك فإن الواقع السياسي لبعض الدول يؤشر على أن التطبيع مع إسرائيل ممكن في حالة توافر مبرراته وشروطه, لأن حال غالبية الحكومات اليوم تقول: لا يوجد في التاريخ صراعات أبدية ولا صداقات أزلية بل هنالك مصالح حاكمة ومباديء هادية لتلك المصالح الوطنية.
السودان في الإستراتيجية الإسرائيلية
اشترك ليصلك جديد الأفارقة
بدأت المحاولات الإسرائيلية لإقامة علاقات مع السودان قبل الاستقلال، ويرجع ذلك للرؤية الاستراتيجية الاسرائيلية لأمنها ومحاولتها الاستفادة من موقع السودان الجيوستراتيجي في كسر الطوق العربي والعبور نحو العمق الأفريقي.
وتعدّ محاولة السيطرة على البحر الأحمر من أهم الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة, والتي بدأت منذ عام 1949م في خليج العقبة بعد تأسيس الكيان الإسرائيلي، وذلك بهدف الاتصال مع العالم الخارجي وبغية استخدام البحر الأحمر لتحقيق مصالحها العسكرية والسياسية والاقتصادية.
وركزت إسرائيل في نظرية أمنها القومي على البحر الأحمر، بوصفه يقع ضمن اتجاهها الاستراتيجي الجنوبي ليشمل الدول العربية المتشاطئة له، ودول القرن الأفريقي المتحكمة في مدخله الجنوبي، بالإضافة إلى منطقة البحيرات العظمى ومنابع نهر النيل. ولذلك خططت إسرائيل منذ نشأتها للتطبيع مع السودان لأهميته وتأثيره الجيوبوليتيكي في المنطقة. ولفك عزلتها، تبنت إسرائيل أيضا استراتيجية التغلغل في دول حوض النيل، والتي ترتكز على ثلاثة محاور متداخلة, وهي المحاور السياسية والعسكرية والاقتصادية.
مراحل التطبيع بين السودان وإسرائيل

مرت عملية تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل بمراحل مختلفة، وبحكومات متباينة المنطلقات الفكرية والتوجهات السياسية بشكل سري أو علني على النحو التالي:
المرحلة الأولى: 1954 حتى قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم (1967)

بدأ أول تواصل لإقامة علاقات بين السودان واسرائيل عن طريق “محمد أحمد عمر” المحسوب على حزب الأمة، والذي اعتُبِر في الأرشيف الإسرائيلي على أنه حلقة وصل بينها والسودان قبل استقلاله، وهو الشخص الذي رافق رئيس حزب الأمة “الصديق المهدي” في زيارته إلى لندن عام 1954م، حيث جرى فيها لقاءان سريان مع الإسرائيليين – دون ترتيب سابق – للبحث عن الدعم لاستقلال السودان ومجابهة النفوذ المصري. وضم الوفد الإسرائيلي سكرتير أول السفارة الاسرائيلية “مورخاي جازيت” وصحفي إسرائيلي يُدعى “بول واشر” من صحيفة ايفنيج استداندر.

وفي عام 1955م، التقى “محمد عمر” وفداَ إسرائيلياَ في اسطنبول، ومن الأدلة في ذلك ما جاء في رسالة إسرائيلية تالية:
“الرجاء إبلاغ عمر أننا مستعدون لإجراء مباحثات فنية مفصلة معه حول خطة التجارة والمال التي تم مناقشتها. محافظ بنك إسرائيل (ديفيد هورفيتز) ومستشار رئيس وزراء إسرائيل للشؤون العربية (جوش بالمون)، سيكونان موجودين في إسطنبول صباح 13 سبتمبر 1955م. نرجو الاتصال بالقنصل الإسرائيلي عند الوصول لترتيب اللقاء. أخبرونا عند سفر عمر لإسطنبول”.

كان النص السابق برقية عاجلة أرسلتها وزارة الخارجية الإسرائيلية بتاريخ 8 سبتمبر 1955م لمكتبها في العاصمة القبرصية نيقوسيا، لإبلاغها للسياسي السوداني “محمد أحمد عمر” – الذي كان موجودا هناك – لإجراء لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين. وكان دافع هذه اللقاءات الإحباط الذي أصاب حزب الأمة لاعتقادهم أن قضية الاستقلال باتت في مهب الريح نتيجة الدعم الكبير المصري والذي أدى إلى انتصار التيار الذي يؤيد الوحدة مع مصر، والمتمثل في الحزب الوطني الاتحادي بزعامة “إسماعيل الأزهري” ورعاية طائفة الختمية في انتخابات عام 1953م، مقابل ما اعتبروه خذلاناَ وتقاعساَ بريطانياَ عن دعم التيار الاستقلالي.

وفي عام 1956م، تعرضت مصر لعدوان ثلاثي من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل نتج عنه حالة من التعاطف العارم مع القاهرة في الخرطوم، فقام البرلمان السوداني بإصدار قانون شديد الصرامة، يسمى قانون مقاطعة إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت اعتُبرت مسألة التعامل مع إسرائيل خيانة للسودان.

وعليه, يمكن القول بفشل المحاولات الإسرائيلية الأولى للتطبيع مع السودان، والذي يرجع ذلك لقوة العلاقات السودانية المصرية آنذاك والروابط القوية بين الحركة الوطنية السودانية والحركة الوطنية المصرية، علاوة للتوجه العروبي المتصاعد عداوته تجاه إسرائيل في تلك الفترة.
من جانب آخر, لم تنشأ أي علاقات ثنائية بين الخرطوم وتل أبيب منذ استقلال السودان. بل شاركت الأولى في الحروب التي شهدتها المنطقة العربية ضد إسرائيل وأرسلت جنوداَ للقتال في حربي عام 1948م وعام 1967م. واحتضن السودان قمة “اللاءات الثلاثة” المعروفة بقمة الخرطوم في 29 أغسطس 1967م، بعد النقاط التي اكتسبتها إسرائيل في الحرب التي اندلعت في 5 يونيو من العام ذاته، وعرفت بـ “النكسة”. وخرجت القمة العربية آنذاك بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال “لاءات” ثلاثة، وهي: “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل قبل أن يعود الحق لأصحابه.
أكاديمي سوداني وباحث في الدراسات الإستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى